أنا مضطر أن أؤجل متابعة موضوع الأيديولوجية القومية العربية إلى أسبوع قادم. ذلك أن خمسا وستين طفلا من شهداء غزة مزقوا خلال أحد عشر يوما الأقنعة عن وجوه وأقوال وظواهر طاغوتية أين منها طواغيت مكة والمدينة إبان حياة نبى الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتى غضب الله عليها ولعنها، وهو التواب العادل الرحيم الغافر.
لقد قرأنا لرجل دينى مدّع على الدين والتاريخ والتراث يصرح بأن المسجد الأقصى المبارك فى القدس المباركة، التى كان يدافع عنه بالروح وبطولات الشهداء أهل فلسطين، ليس هو المسجد الذى جاء ذكره فى القرآن. فمسجد القرآن، حسب هلوساته، هو مسجد متخيل يقع فيما بين الطائف ومكة.
الهدف واضح: إذا احتل مستوطنو وجنود الصهاينة المسجد الأقصى المبارك فإنهم لا يعتدون على رمز إسلامى مقدس، فالأمر كله لا يتعدى خلافا حول مبنى أثرى قديم، والمتخاصمون هم تجار عقارات ليس إلا.
ثم استمعنا إلى رجل دين آخر يخبرنا عن آخر اكتشافاته الفقهية. يؤكد، لا فض فوه، بأن الديانة اليهودية هى أقرب للإسلام من الديانة المسيحية: لا تهمنا الشطحات الفقهية التى تخرج من أفواه بعض المجتهدين بين الحين والآخر. ما يلفت النظر هو توقيت النشر.
إذ فى الوقت الذى كان يتم فيه التلاحم الأخوى والدينى والوطنى فيما بين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين وباقى العرب، يخرج علينا هذا المجتهد بتصريح يبعد ذهنيا وشعوريا الأخوات والإخوة المسيحيين عن التعاطف والتعاضد مع أخواتهم وإخوتهم من المسلمين بشأن مركزية القدس، بمساجدها وكنائسها، فى الصراع العربى – الصهيونى.
ثم شاهدنا وسيلة إعلام عربية، وفى نفس النشرة الإخبارية، تصنف جنديا عربيا مات فى أحد الصراعات العربية بلقب شهيد، بينما تصنف شابا مقدسيا وهو يدافع لمنع المستوطنين الصهاينة من تدنيس المسجد الأقصى بلقب القتيل.
حتى ما تكرم به الله لذلك الشاب الشجاع المعطاء حاولت تلك الجهة الإعلامية سرقته منه.
ثم قرأنا أبشع صور غياب الشهامة والمروءة والإنسانية متداولة على وسائل التواصل الاجتماعى العربية فى أشكال عدائية من الاستهزاء والشماتة واللغز واللمز تجاه ما كانت غزة تعرضه من أروع أنواع البطولة والفداء بالنفس وتفضيل الموت على الحياة فى الذل والاستجداء.
حتى صور أطفال غزة، وهم يضعون رءوسهم بين أرجلهم، وأياديهم على آذانهم، اتقاء ورعبا واستغاثة، حتى تلك الصور لم تستطع أن تقنع كتبة ومجانين العبث بالانكفاء والسكوت وممارسة الحياء لمدة أحد عشر يوما من الجحيم الذى عاشته الأمة كلها.
عندما تنزل إلى الدرك الأسفل من البذاءة والعبث مشاعر الجنون القبلى والطائفى والمناطقى والسياسى الولائى الزبونى فى أى مجتمع، كما حدث إبان الهجمة البربرية الحاقدة على غزة، فإننا أمام كارثة أخلاقية وإنسانية لا يمكن تبريرها ولا قبولها ولا حتى استجداء الأعذار لها. ما حدث كان سقوطا مذهلا لكل فضيلة وقيمة وأعراف إنسانية.
هناك مرض نفسى – سياسى – ثقافى تتبناه جهات عربية، بتنسيق مع الصهيونية، وتنشره، يؤكد وينادى برجوع الإنسان العربى إلى أكثر المشاعر والغرائز بدائية، لكأن قرنا كاملا من الدخول فى الحداثة والعصرنة قد ذهب مع الريح.
ما يراد تحقيقه، كاستراتيجية استعمارية صهيونية، هو النيل من روح وعزيمة المقاومة العربية التى يحمل عبء وتضحيات صمودها نفر قليل ممن يقبضون على الجمر.
لكن الملايين العرب الذين خرجوا فى شوارع مدن الوطن العربى كله، والملايين النبلاء الأشراف الذين ملأوا شوارع مدن العالم كله، قد أكدوا بما لا يقبل الشك بأن مشاعل الالتزام القومى والإنسانى لازالت تشتعل، وتظهر الوجه القبيح لكل من شمت وغمز ولمز وتآمر وصمت وباع ضميره إبان أحد عشر يوما من المجد والسمو
المصدر: الشروق