تعمد روسيا والصين إلى توفير لقاحات في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتعزيز نفوذهما في المنطقة. ارتفع الطلب على اللقاحات فيما تواجه دول العالم التداعيات الاقتصادية والصحية الناجمة عن جائحة كوفيد-19. وقد تجاوز عدد اللقاحات المُعطاة 1.4 مليار لقاح في مختلف الدول، لكنها نسبة لا تغطي سوى 9.7 في المئة من سكان العالم. استفادت الدبلوماسية الدولية من هذه الفجوة بين العرض والطلب على اللقاحات، فبات توفيرها إحدى وسائل القوة الناعمة التي تلجأ إليها الدول لتعزيز نفوذها وتحسين سمعتها دوليًا.
تحتلّ روسيا والصين موقع الصدارة على مستوى دبلوماسية اللقاحات، إذ تستخدمها كوسيلة لتعزيز نفوذها عالميًا، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفيما تبنّت الدول الغربية مبدأ “وطني أولًا” بعد انخراطها في سباق التلقيح، قررت روسيا والصين الدخول في سباق توفير اللقاحات للدول الأخرى. ونظرًا إلى بطء طرح اللقاحات عبر منصة كوفاكس، وهي المبادرة الدولية لإتاحة لقاحات كوفيد-19 بشكل سريع ومنصف إلى جميع البلدان، واجهت الدول الفقيرة والناشئة صعوبات في توفير اللقاحات لسكانها. وقد استفادت الصين وروسيا من ذلك لتعزيز موقعهما حول العالم، وتوطيد علاقاتهما مع الدول، والظهور كـ”منقذتين” للعالم الناشئ.
انتشرت دبلوماسية اللقاحات بطرق عدّة في جميع أنحاء العالم العربي وتركيا. فقد تمكّنت بعض الدول من شراء اللقاحات، فيما حصل البعض الآخر عليها على شكل تبرعات أو تبادلات سياسية. وتمثّلت استراتيجية اللقاحات الروسية والصينية في التكيُّف مع التحديات الاجتماعية والسياسية التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأظهرت أن دول المنطقة تتراوح بين فئات ثلاث: دول هشّة، ودول قادرة على الصمود والاستمرار، ودول “مضادة للهشاشة”، بمعنى أنها ليست قادرة على تحمّل الكوارث وحسب، بل تستمّد قوّتها منها. وهكذا، صاغت روسيا والصين استراتيجيتهما وفقًا للخصوصيات السياسية والاقتصادية لكل فئة.
تشمل الفئة الأولى الدول الهشّة التي تمتلك أنظمة حكم ضعيفة وتعاني اللااستقرار الاقتصادي والسياسي، مثل لبنان وسورية والعراق. وقد زوّدت الصين وروسيا هذه الدول باللقاحات، من خلال طرح خيارات أرخص ثمنًا وأكثر توافرًا من نظيراتها الغربية. والجدير بالذكر أن الصين سبق أن زوّدت الدول الهشة بإمدادات طبية كجزء من دبلوماسية الكمّامات التي انتهجتها العام الفائت. أما روسيا، فانصبّ تركيزها أكثر من التبرع باللقاحات على إبرام صفقات تجارية، إذ باعت لقاح سبوتنيك V إلى القطاع الخاص في العديد من الدول للمساعدة في تسريع وتيرة حملات التلقيح.
أما في التعامل مع الفئة الثانية، التي تضمّ في الدرجة الأولى دولًا أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود اقتصاديًا وتربطها علاقات أوثق بأوروبا مثل تونس والمغرب، فقد سارت دبلوماسية اللقاحات على نطاق مختلف. وأدّى اعتماد الدول الغربية على توزيع اللقاحات عبر منصة كوفاكس، وتركيزها على حملات التلقيح المحلية إلى التأخّر في تلبية حاجات الدول الصديقة لها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما ولّد تصورات حول فشل الغرب في هذا الصدد. ورأت الصين وروسيا في ذلك فرصة ذهبية لتعزيز السردية المناهضة للغرب، وتبنّي أشكال جديدة من التعاون في دول المغرب العربي.
على سبيل المثال، توقّع المغرب حدوث مثل هذا التأخير، فدخل مبكرًا خط المفاوضات مع الصين من خلال المشاركة في المرحلة الثالثة من الاختبارات السريرية للقاح سينوفارم الصيني، ثم اشترى ملايين الجرعات. كذلك، لم تعتمد الجزائر على نظرائها في الغرب، بل عوّلت على علاقاتها التاريخية مع روسيا للحصول على لقاح سبوتنيك V ، واستفادت موسكو بدورها لتوطيد علاقاتها مع الجزائر وناقشت إمكانية إنتاج اللقاح هناك. ولم تبقَ تونس بعيدةً عن هذا الزخم، إذ سمحت باستخدام اللقاح الروسي، على الرغم من تردّدها بدايةً في طلبه، إذ لم يبقَ أمامها بديل آخر بعد التأخر المتكرر في شحن لقاحَي أسترازينيكا-أوكسفورد، وفايزر-بيوإنتيك.
أخيرًا، تشير الفئة الثالثة “المضادة للهشاشة” إلى مصطلح استخدمه المؤلّف نسيم طالب لأول مرة في وصف الدول التي تزيدها الضغوط قوة وصلابة، وتشمل دولًا مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا، اللتين استفادتا من دبلوماسية اللقاحات وتوصلتا إلى نتيجة تصبّ في خير الجميع. في هذا الإطار، تبنّت الصين وروسيا نهجًا قضى بإبرام صفقات للسماح بإنتاج اللقاحات في هذه الدول أو تسهيل إجراءات الحصول على تأشيرات دخول للأشخاص الذين تلقوا اللقاح الصيني أو الروسي.
أصبحت الإمارات العربية المتحدة التي كانت السباقة في تلقيح سكانها، أول دولة عربية توقّع اتفاقية مع الصين لتصنيع لقاح حياة فاكس، بالتعاون بين شركة سينوفارم وشركة جي 42 الإماراتية الرائدة في قطاع التكنولوجيا ومقرها أبو ظبي. وبالمثل، اتفقت تركيا مع روسيا للبدء بالإنتاج المشترك للّقاح الروسي على أراضيها. كذلك، قرّرت الصين إصدار قواعد تنظيمية لتسهيل حصول الأشخاص الذين تلقوا لقاح سينوفارم على تأشيرات لدخول الصين. وقد أفسح ذلك المجال أمام أبو ظبي لفتح ممرات سفر آمنة مع بيجينغ، ما أعاد إحياء الأنشطة الاقتصادية والتجارية بين الجانبين.
باختصار، تكلّلت المقاربات التي انتهجتها روسيا والصين لتوزيع اللقاحات على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالنجاح، إذ تحلّت بالمرونة واستطاعت التكيّف مع مختلف الوقائع السياسية والاقتصادية في المنطقة. لذا، قد تنشأ علاقات أقوى بين دول المنطقة من جهة بين وروسيا أو الصين من جهة أخرى في مرحلة ما بعد كورونا. مع ذلك، لا تخلو هذه المسارات الدبلوماسية من المخاطر، وينبغي الانتظار لمعرفة ما إذا كانت موسكو وبيجينغ ستفوزان في سباق التلقيح وسط تردّد الكثير من الأشخاص بشأن تلقّي لقاحاتهما، والشكوك حيال مدى فعاليتهما. هل ستتمكنان من الحفاظ على نفوذهما حتى بعد أن تنتهي الدول الغربية من تلقيح شعوبها بالكامل وتلتفت إلى شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط