(من جبال الطائف إلى وحدة العناية المركزة) غوص في العمق

أحمد مظهر سعدو

صدر عن دار نون 4 في عينتاب/تركيا مؤخرًا ، الكتاب المهم تحت عنوان ( من جبال الطائف إلى وحدة العناية المركزة) للكاتب الطبيب معتز محمد زين، وقد جاء الكتاب ضمن 75 صفحة من القطع المتوسط. يلامس الكاتب ضمن دفتي الكتاب تجربة شخصية مع وباء الكورونا الذي اجتحاح ومايزال الكرة الأرضية، مخلفًا الكثير جدًا من الراحلين، وكذلك من المعافيين أو ما بينهما. لكن مصداقية البوح في هذا العمل الكتابي والقدرة على الصياغة الأدبية والمعرفية، ومحاكاة ذلك للواقع المعاش، هو ماجعل الكتاب يتبوأ منذ صدوره وحتى الآن موقعًا مميزًا ومكانًا مرموقًا بين جملة الاصدارات المتلاحقة التي تتمظهر اليوم في غير مكان من الجغرافيا العربية، وكذلك العالمية.
الكاتب الدكتور معتز وهو الذي دخل العناية المركزة لمدة ليست بالقصيرة، يرى في ذلك مايتعدى التجربة الذاتية إلى ماهو أبعد منه وأكثر قدرة على الوصول إلى جل الواقع المحيط بالجائحة والمتعاطي معها، سواء تعرض للإصابة أم لا، سواء وعى أهمية إدراك أبعاد الجائحة أم لا. يحاول الكاتب أن يحاكي مابين ماهية التوضع على سرير العناية المركزة، ووواقع السجن والسجناء والمعتقلين، وهو واقع لا شك من الصعوبة بمكان بحيث يجعل من الكاتب عالي الإحساس بما يعانيه السجناء في سورية على يد نظام، بل عصابة الإجرام الأسدي، وهي مقاربة صحيحة إلى حد كبير، لكن تعلو وتتفوق على العناية المركزة بما يعانيه المعتقل السوري من عسف وظلم من عصابات لا تعرف الله، ولا تشعر بأهمية الانسان، بل تمارس أحقادها ومرضها النفسي على شباب من خيرة شباب سورية، كل ذنبهم أنهم وقفوا ضد الطاغية، وقالوا له كفى ظلمًا وقهرًا وهدرًا لكرامة وإنسانية السوريين.
من يقرأ الكتاب الذي بين أيدينا، يعيش حالات إنسانية غاية في المعاناة، وفي نفس الوقت غاية في توقد الفكر، والعودة الإيمانية إلى الخالق، والتمسك بالمعطى الإيماني المنبعث من نفس تواقة للخير.
بين ظهراني الكتاب غوص عميق وأكيد في الكثير من القيم والأفكار الإنسانية، التي تضعنا جميعًا أمام مسؤولياتنا تجاه مجتمعنا وأهلنا وناسنا، وكل الواقع المجتمعي المحيط. علاوة على الإمساك بلحظات التأمل والجمال حيث يقول :” إن نفحات الإيمان ولحظات التأمل ولمسات الجمال وساعات السجود والتضرع والاستسلام لمشيئة الله تعالى _بعد استنفاذ الطاقة في أخذ الأسباب_ هي أجمل ما في هذا الوجود وأشد اللحظات لذة ومتعة ونشوة”. ثم يتابع فيقول” إن طريق الفلسفة والمنطق جاف ومعقد ومتعرج، أما طريق الأخلاق والتأمل فسهل ورقيق ومحبب”.
في امتلاكه للتجربة مع مرض الكورونا كان يريد دائمًا أن يقول بأن التجربة شيء والحكم عليها من البعيد مسألة أخرى، فأن تعيش الحالة ليس أن تسمع عنها، ” فارق كبير بين حكمك على المسألة من بعيد وحكمك عليها من داخلها، فارق كبير بين النظرية وتطبيقها، فارق كبير بين الخطابات على المنابر والتحرك في الميدان، فارق كبير بين أن تتحدث عن الموت وبين أن تعاينه عن قرب”.
وهو في ذلك يماهي مع مايجري في واقعنا السوري، وثورة السوريين ضد الطاغية، وخروج معظم السوريين في الانتفاض والثورة، سواء في الميدان أو بالقلم أو بالخطاب المنبري، وهو هنا يمسك بناصية الحقيقة عندما يشير إلى الفرق بين الممارسة الميدانية، وبين التنظير الخارجي أو البعيد، كما الفرق بين الحديث عن السجن، أو ولوجه الفعلي والمعاناة داخل جدران ظلامه وظلمه وقهره اليومي.
لم يألُ الكاتب جهدًا في أن يمسك بأساسيات الحقيقة والعلم والإيمان، عبر تجربته تلك، وهو الذي يبين من خلال مايعتمل داخل الحرف والجملة والسطر، أنه مندمج بالمجتمع أصلًا وأساسًا وتربية وقيمًا/ وهو الذي يمارس الفعل الإنساني الخير قبل أن تصل الجائحة إليه أو بين ظهرانيه. ماجعله أكثر قدرة على البوح وإفساح المجال لمنتجات الخير والأنسنة أن تصل بسهولة لكل من سيقرأ الكتاب. حيث يقول” مطلوب من الانسان أن يستخدم عقله لفهم ألغاز الكون والطبيعة وتحسين شروط الحياة وتغيير الواقع نحو الأفضل. ولكن لا يحق للعقل والفلسفة أن ينفلتا من عقالهما الأخلاقي ويتحركا بدافع المصلحة فقط كما يحصل في الغرب”.
بين بواعث الكتاب وضمن جنباته السلسة والصادقة يجد المرء ما ينفعه ويدخل جوانية الحالة الإنسانية والشعورية والإيمانية ويلج مع الكاتب أبدًا في دواخل باب العناية المركزة فنجد الكاتب يقول ” كان باب العناية المشددة بمثابة البرزخ الذي يفصل بين الموت والحياة بين الظلام والنور بين الضيق والفرج. ارتسمت على وجهي ابتسامة طفل صغير وعبرت عن فرحتي لرؤية الضوء للعامل الذي يدفع الكرسي المتحرك بالكلمات والإشارات. أحسست فعلًا في هذه اللحظة أنني ولدت من جديد”.
نعم فقد قدر الله أن ولد الدكتور معتز من جديد بعناية ورعاية المولى، ليتابع مساره ومسيرته الإنسانية الإيمانية المنبعثة من جوانية العمق الصادق الطاهر والطهور، وليمسك من جديد لمبضع الجراح القيمي الإنساني الأخلاقي، فالمسير طويل والمهام كبيرة، والطريق من أجل الكرامة والحرية طويل وشاق، لقد عاد إلينا معتز محمد زين ليتحفنا بهذه الكتابات الصادقة والشفافة التي تصل القلب والعقل بدون استئذان، بما امتلكته من ملمح أدبي ومعرفي وإيماني عالي المستوى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى