هذه المشيخةُ السوريّة وأوركسترا تعظيم القائد

عبير نصر

منذ وصول الأسد الأب إلى سدّة الحكم، عمدت أجهزةُ المخابرات السورية إلى احتواء أيّ حزب أو تجمّع أو ظاهرة، ولا سيّما إنْ كانت دينية الطابع، خوفاً من ظهورِ تنظيماتٍ إسلاميةٍ متطرّفةٍ تخرج عن نطاق السيطرة. وكانت أحداثُ الثمانينيات التي تُوّجت بمجازر حماة نهايةً لحقبةٍ من العمل الإسلامي، إلَّا أنَّها كانت، في الوقت نفسه، مبعثاً لولادةِ عملٍ مختلف، ومنطلقاً لرسم خريطةٍ دينية سياسية جديدة، فبدأت شخصيّاتٌ وجماعاتٌ تطفو على السطح، لتعيدَ تشكيل كياناتٍ قائمة، وتغيّر في وسائلها وتكتيكاتها. وعليه، بدأت في نشر تديِّنٍ شعبيٍّ، أو علميّ تخصصّي، أو مسجديّ حلقيّ يتلاءم بتنوّعاته مع معطيات البيئة المحيطة اجتماعيّاً وسياسيّاً. وغدا الثالوث المقدس (السياسة – الأيديولوجيا – الدين) في علاقةِ تشابكٍ معقدة، تؤكد أنّ ما يفرض سلطةَ الأيديولوجيا أو الدين هو انحيازُ السياسي الذي يعتمد على استغلال ما في الاثنين من قوى دافعة للعمل السياسي، وبالتالي لا يظهر الدور الفجّ للسياسة، إنما تظهر سلطة كلّ من الدين والأيديولوجيات، ليبقى للسياسة فعلها المقنّع، أو الخفيّ، أو غير المحايد في الواقع.

في المقابل، شجّعَ النظام السوري قيامَ حركاتٍ إسلامية “دعوية” غير سياسية، ما عُرف بالإسلام الصوفي الذي قاده الشيخ أحمد كفتارو، المعروف بعدائه للإخوان المسلمين. وعمل الأخيرُ جاهداً على استيعاب مشايخ الدين وخطباء المساجد، كما عيَّن عديدين من وزراء الأوقاف الموالين له. وأفرزتْ هذه الصيغة جوقةً من المشايخ يسيطرون على الساحة الدينية، ولا ينطقون سوى بتعظيم القائد وتأليه كلّ حرفٍ يقوله، كذلك الدعوة لتثبيت حكمه في كلّ صلاة. والتحالف بات واضحاً بين النظام البعثي والمشيخة السنيّة في سورية، في غياب الكتلة الوازنة من العلمانيين الوطنيين. وعمل حافظ الأسد على تكريس هذا التّحالف، فكانت الصورة الأولى التي تتداولها له وسائل الإعلام، عقب الانقلاب البعثي الشهير، خارجاً من الجامع الأموي، وعن يمينه الشّيخ كفتارو، مارّاً بسوق الحميديّة الذي ارتفعت فيه لافتة مكتوب عليها من تجّار دمشق “طلبنا من الله المدد فبعث لنا حافظ الأسد”. وبناءً على الرّوايات الكثيرة، كان الشّيخ أحمد كفتارو يتحدّث، في درسه العام وخلال مناسبات عدّة، أنّ حافظ الأسد زاره قبل القيام بالانقلاب، واستشاره في موقفه، فقال له الشّيخ: “إن لم تفعلوا أنتم هذه الخطوة فسنلبس نحن البدلة العسكريّة ونحمل البواريد ونقوم بها”.

عمل الأسد الأب على استخدام سلطته السياسية لتثبيت شرعيةٍ دينية على حكمه، بعدما اتهمه الإخوان المسلمون في السبعينيات بأنّه غير مسلم. وكان الأسد يعلم أن وضعه غير طبيعي، إذ كيف يحكم الأكثريةَ، وهو من طائفة أقليّة؟ لذلك استعان بالمشايخ الذين ينافقون له ويجمِّلون صورته. وكانت نقطة التّحوّل في العلاقة مع المؤسسة الدّينيّة مع محاولات تمرير دستور عام 1973، بعد حذف المادّة الثّالثة منه التي تنصّ على أنّ دين رئيس الدّولة هو الإسلام، وأنّ الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسيّ للتّشريع. فكانت المواجهة الأعنف مع علماء حماة وحمص ومشايخهما، إذ اكتست طابعاً جماهيريّاً من خلال المظاهرات والمواجهات مع أجهزة الأمن. وفي وسط كلّ هذه المعمعة، لم يكن للشّيخ كفتارو أيّ صوتٍ، سواء في إطار الاعتراض أو التأييد، ولم يبدر منه أيّ موقفٍ تجاه تعديل الدّستور، على الرّغم من أنّه المفتي العام، ومنصبه يتطلّب موقفاً معلناً. كما أنّ غياب الشّيخ أحمد كفتارو عن جنازتي مؤسس جماعة زيد، عبد الكريم الرّفاعي (1973)، وعالم الدين الشيخ حبنّكة الميداني (1978)، وما جرى من قبل في جنازة الشيخ سعيد البرهاني في 1967، يكشف حجم الشّرخ وعمقه، كما يكشف عن درجة الاحتقان العالية في أوساط المؤسسة الدّينيّة. في المقابل، كان تغيّب حافظ الأسد عن جنازتي الشّيخين الرّفاعي وحبنّكة اللذين فشل في التقرّب منهما سابقاً، وحضور جنازة نجل الشّيخ كفتارو دلالةً واضحةً على وجهة النّظام التّحالفيّة داخل المؤسّسة الدّينيّة من جهة، وقدرته على استخدام دبلوماسيّة الجنائز لإيصال رسائله وتحقيق أهدافه من جهة أخرى.

وعلى الرغم من اعتماد النظام السوري صيغة عَلمانية، بحسب زعمه، فإن تعامله مع الأديان لم يوفر أيّ فرصةٍ لاغتنام الرصيد المعنوي لأيّ رجل دين، لدعم حكمه وترسيخ هيبته ومرجعيته السياسية الأحادية. ولعلَّ أبرزَ الأحداث التي غدتْ مثارَ جدل طوال حكم الأسدين، اندلاع الثورة السورية عام 2011، وموقف العلماء ورجالات الدين من هذه الانتفاضة الشعبية، من بينها موقف أكبر عمامة في سورية، محمد سعيد رمضان البوطي، الذي أمّ صلاة الجنازة على حافظ الأسد، فكانت إمامته الصلاة آنذاك شرعنةً صريحةً لنظام التوريث الأبوي. واستمر دعمه للأسد الابن والدفاع عنه حتى آخر لحظة من حياته. حيث وصف قادة الثورة السورية بـ”قادة الهرج” و”منفّذِيّ الأوامر الخارجيّة”، ورأى فعلهم لذلك انقياداً لأمر آمِر أو استفادة من مالٍ يسير يُوضع في الجيب. كما خصّص الشيخ البوطي عدة خُطب للتحذير من هذه التيارات والحركات، باعتبارها أدواتٍ عميلةٍ، تُحركها اليد الخفيّة التي تلعب من وراء البحار.

واحتضن النّظامُ السّوري، عبر أذرعه وأجهزته المخابراتيّة، هذا التديّن، وسيطر على أربابه، وعلى المجتمع المتأثّر بأقوالهم وأفعالهم. وعكست الممارسةُ الميدانية، المرتكزة على غياب مواجهةٍ فاعلةٍ مع العرش الاستبدادي، العلاقةَ الأصيلة بين المؤسسة الدينية والنظام الحاكم الذي عمد إلى ترسيخ الزبائنية داخل الميدان الديني، عبر تشجيع المنافسة المحلية على الموارد واللجوء إلى المحاباة، ففي مدينة حلب، مثلاً، نُقِلت المناصب الأساسية، تدريجياً، من الشبكات الدينية التابعة لآل الشامي إلى الشبكات الدينية التابعة للمفتي العام للجمهورية أحمد بدر الدين حسّون. ومع اتخاذ الانتفاضة الشعبية منحىً عنفياً، أعلن مجلسُ الإفتاء الأعلى السوري أنّ الجهاد ضدّ كلّ من استهدف سورية فرض عين، ليس على السوريين فحسب، وإنما على كلّ الدول العربية والإسلامية. ولم تفاجئ هذه “الفتوى” الشعب السوري الثائر، إذ إنها أتت كتحصيل حاصل لمواقف المفتي حسون الذي كان ولاؤه للنظام السوري ولا يزال أشبه بالعلامة الفارقة. ولعلّ أول مواقفه شبه الرسمية خلال أحداث “مجزرة حماة” عام 1980، حين عمّ الإضرابُ أسواقَ حلب، وأمر حافظ الأسد وقتها قوات الجيش باقتحام المدينة، وتكسير أقفال المحلات التجارية المضربة، وفي هذه الحادثة، بحسب ناشطين، لم يجد أحمد حسّون حرجاً في مرافقة قوات الجيش في مهامها، حاملاً ميكرفوناً مخاطباً الناس: “الإضرابَ حرامٌ شرعاً لأنه يضرُّ باقتصاد البلاد”.

يدرك النظامُ السوري الدورَ الإنساني والاقتصادي الاجتماعي الحيوي الذي كانت المؤسسات الدينية تؤدّيه قبل العام 2011 وبعده، فعمل جاهداً على اللّعب على تناقضات المؤسّسة الدّينيّة، وإبقائها في حالة الاحتياج إليه، والشّعور بالتّهديد القانونيّ بالإغلاق، ما سيدفع أركان هذه المؤسّسة إلى التّسابق في ما بينهم، لتقديم فروض الطّاعة والولاء. وقد تمّت السيطرة على المؤسسة الدينية نفسها عن طريق دعم العناصر الضعيفة فيها نفسياً أو أخلاقياً، وتسفيه أيّ سلطةٍ رمزيةٍ دينية، وبالتالي إفقاد المؤسسة بأكملها وما تمثله من نشاط ونشطاء وقيم وعقائد وأفكار، أيّ صدقيّة أو اعتبار. وهذه اللعبة الخطرة التي يتفنّن النظامُ في تحريكها ستؤدّي، في النهاية، إلى ابتلاع مشروع الدولة الديمقراطية، وربما ابتلاع النظام نفسه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى