أحالت السلطة السياسية في لبنان، الدستور إلى خانة التعطيل. أصبح هو وكل المنظومة السياسية في حالة موت سريري، لا يتجرأ أحد من الأفرقاء السياسيين على إعلانه. وهم على الرغم من كل خلافاتهم العميقة فيما بينهم، إلا أنهم يجتمعون مجدداً على رفض أي تغيير، في بنية النظام وتركيبته. وحتّى عندما يطرحون أفكاراً تغييرية جدّية وبناءة، فلفرط خطاياهم وانعدام الثقة بهم، لا يعرفون تقديمها إلا بشكل ساذج. والأسوأ أن بعضهم يطرح التحدي ويرمي مجدداً أفكاراً “تقسيمية”، على غرار طرح رئيس التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل، للامركزية الإدارية والمالية الموسعة. وهي تعني بشكل واضح ومباشر، “الفدرالية”.
تخبّط القوات والمستقبل والاشتراكي
طرح هذا النوع من اللامركزية، لم ينص عليه الطائف، المعطّل أصلاً، والذي ادعى باسيل من على منبر مجلس النواب تمسكه به، في أفظع عمليات التعمية السياسية، طالما أن إسقاط الطائف هو العنوان الذي خاض على أساسه باسيل انتخاباته النيابية الأخيرة، والتي أجريت بالأساس كضرب لهذا الاتفاق وإنهاء له، ناهيك عن تأجيجه للصراع المستمر على الصلاحيات الدستورية بكثير من النعرة الطائفية والمذهبية.
تنحطّ الحياة السياسية أكثر فأكثر في لبنان، مع طبقة حاكمة لا تعرف التنفس إلا في حضيض الانقسامات والعصبيات وهتك الدستور روحاً ونصاً. فيعلن رئيس المجلس النيابي بدء جلسة مجلس النواب لمناقشة البيان الوزاري وإعطاء الثقة للحكومة، قبل اكتمال النصاب القانوني. وحسب ما تكشف المصادر، فإن عدد النواب الذين كانوا داخل الجلسة، عندما أعلن برّي انطلاقتها، 61 نائباً. وأعلن أن عدداً آخر من النواب سيحضر، فاعتبر أن النصاب قد اكتمل، ليستدرج نواب المستقبل والقوات والاشتراكي إلى داخل القاعة العامة.
نواب هذه الكتل الثلاث أيضاً، ليسوا بحال أفضل من الآخرين. فحال التضعضع والتخبط التي يعيشونها، هي من أبرز الدلائل على مراكمة الخسارات وعدم التعلم من التجارب، والاستمرار في سلوك إعلان المواقف وممارسة ما نقيضها. فيوم الإثنين، أدلى ممثلون عن هذه الكتل بمواقف تشير إلى مشاركتهم في الجلسة، من دون إعطاء الثقة. ولكن صباح الثلاثاء، تم التوافق بين القوى الثلاث على عدم المشاركة وتعطيل النصاب. بقي نواب القوات اللبنانية في مكاتب النواب ولم يتوجهوا إلى مبنى القاعة العامة. نواب تيار المستقبل رفضوا المشاركة، وصرّح أحد نواب اللقاء الديمقراطي أن لا حضور ولا تصويت. تفاجأ برّي بالمواقف، فبدأ باتصالاته مع جنبلاط والحريري، لتأمين النصاب. وكان له ما أراد، بحضور نواب الاشتراكي.
الضياع والانكشاف
نواب المستقبل، توجهوا إلى مكتب أمين عام مجلس النواب عدنان ضاهر، ورفضوا الدخول إلى القاعة والاستماع إلى كلمة رئيس الحكومة حسان دياب، ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. وهم الذين كانوا قبل أسابيع قليلة في حالة “غرام ووئام” مع باسيل، بل وفي تحالف ثنائي، أسهم بالقضاء على ما كان قد تبقى من حياة سياسية في لبنان. وهذا دليل على الارتهان إلى حسابات صغيرة جداً، لا ترقى إلى مستوى أطفال المدارس والأحياء.
حالة الضياع والانكشاف التي تعيشها القوى السياسية، في الحيرة بين الحضور إلى جلسة مجلس النواب أو عدمه، تسمح للفريق الخصم بتحصيل المزيد من الأرباح على حسابهم. لكن حزب الله أيضاً لم يكن بعيداً عن هذا الانكشاف، بدليل موقف النائب محمد رعد الذي اعتبر أنه يمنح الثقة لحكومة لا تلبي تطلعات الحزب ولا يوافق على بيانها الوزاري. لو كان هناك إرادة حقيقية من رافضي الحكومة لمنع حصولها على الثقة، كان بإمكانهم تعطيل النصاب، أو الحضور بشكل كامل إلى المجلس النيابي. وبحسبة بسيطة أيضاً، كان يمكن لهذه الحكومة أن لا تنال الثقة بعدم حصولها على أكثر من 62 صوتاً، في ظل معارضة نواب من داخل قوى الثامن من آذار وتكتل لبنان القوي لها ورفضهم منحها الثقة.
ولكن ما يجمع القوى السياسية هو أكبر من كل الخلافات، ويرتبط بحسابات بعيدة فيما بينها للحفاظ على التركيبة الحالية التي يضمنون بموجبها مكتسباتهم. المعارضون يبحثون عن ضمانة، لا يوفرها لهم أحد إلا نبيه بري، الذي أسلفوه مرتين في جلسة الموازنة وفي جلسة الثقة، وهو سيردّ الجميل حتماً. الحريري لا يريد مواجهة الثنائي الشيعي، ويركز هجومه على التيار الوطني الحرّ، الذي سيلتصق أكثر بحزب الله في ظل هجوم الحريري عليه. وليد جنبلاط في تحالف عضوي مع نبيه بري منذ 6 شباط 1984. هذا تحالف معمّد بالدم، وبمحطات سياسية وعسكرية كثيرة، ليس من السهل زواله. وهو يعرف اللحظة التي يستعيد فيها دوره كبيضة للقبان، فلولاه لما تأمن النصاب ولما حصلت الحكومة على الثقة.
التغيير في النظام
وسط هذه الحسابات البسيطة، والتسخيف للحياة السياسية في لبنان، واهتمام القوى بالصغائر، يذهب لبنان إلى وجه جديد غير مكتمل المعالم. لكن الأكيد لتعطيل الدستور والصراع المناطقي والتحاصص الحزبي والطائفي والمذهبي، وحتى داخل الطوائف والمذاهب، بما يؤشر إلى القضاء على الصيغة اللبنانية كما هي معروفة. الحريري يريد اختزان السنّة مجدداً، والثنائي الشيعي يحافظ على قوته حالياً، على الرغم من كل الضربات التي وجهت إلى بري، بينما الساحة المسيحية مفتوحة على صراعات لم تعد استراتيجية بقدر ما هي تفصيلية، وإن كرر أقطابها الخطأ أيضاً بطرح شعارات كبيرة، من قبل تصحيح الطائف أو تعديل الدستور، المترابط بطرح اللامركزية الموسعة. وهذه ستسبب المزيد من التقسيم والشرذمة، خصوصاً أن كل المعطيات تفيد النظام اللبناني لن يبقى كما كان. ففي ظل قوة حزب الله المتنامية، وسيطرته على مناطق أساسية في البلد، وحاجة الجميع إليه، سيكون صاحب دور متطور في بنية النظام، سواء عبر طرح استحداث موقع لنائب رئيس للجمهورية، أو المداورة في الرئاسات أو في المواقع الأولى في الدولة، كحاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش. هذا الكلام، يتم التداول به على نطاقات واسعة داخلياً وخارجياً. وهو حتماً سيدفع لبنان إلى الكثير من الصدامات والتوترات، التي ستنتج عن الأزمة المالية والاقتصادية المستمرة، والتي ستستفحل في المرحلة المقبلة، وتكون مقدمات لتغيير كبير. مرحلة بالتأكيد ستنتهي فيها أدوار قوى وأشخاص، قد تعتبر أنها أدت وظيفتها، ولا تنفصل عنها “مندرجات” التسوية الرئاسية التي حصلت في العام 2016، وأدت إلى الانهيار الحاصل اليوم، بعد محاولة اختزال الطوائف والمذاهب والمواقع بأشخاص معينين، ربما كانت أدوارهم تُستخدم في سبيل الوصول إلى هذه الحال.
المصدر: المدن