نشر الصديق راتب شعبو، في صحيفة «العربي الجديد»، مقالة بعنوان «الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية» يمكن اعتبارها حلقة جديدة في سلسلة نقاشات سابقة تناولت هذا الموضوع.
لا تخوض المقالة في مبدأ الفيدرالية كشكل من أشكال الدولة الحديثة، بل تستبعده بوضوح لمصلحة تحليل سياسي لطرح الفيدرالية والعلاقة بين الفيدرالية والديمقراطية في الحالة السورية، فيحكم على من يدافعون عن فيدرالية الدولة بأنهم ينطلقون من إرادة تكريس سلطات الأمر الواقع المحلية القائمة الآن، بما في ذلك التعايش مع النظام الأسدي. في حين يحدد الكاتب موقعه في الصراع بالدفاع عن دولة ديمقراطية تكون بديلاً لنظام الأسد، في استعادة مخلصة لمبادئ ثورة الشعب السوري التي انطلقت في ربيع العام 2011.
والحال أن الوضع السياسي في عموم سوريا اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عما كان عليه قبل عشر سنوات، وما دام الحديث يدور في السياسة، لا في المبادئ الدستورية المجردة، فلا بد من إرساء النقاش على أسس واقعية، الأمر الذي لا يجهله الكاتب ولا ينكره، لكن الخلاصات التي وصل إليها لا تتفق مع هذه المقدمات. وسبب ذلك، في رأيي، هو المسافة الفاصلة بين معطيات الواقع ومتطلبات الإيديولوجيا. وأعني هنا «إيديولوجيا الوطنية السورية» التي تفتقد لأي مقومات في الواقع السوري، ما لم نحسب كثرة إعلانات التمسك بها دليلاً على وجود المقومات.
فنحن نعرف أن جميع الأحزاب والتيارات والأطر التحالفية المعارضة في سوريا، تقريباً، تعلن في برامجها وبياناتها وخطابها العام عن تمسكها بتلك الوطنية مع المتممات المألوفة كالديمقراطية ودولة المؤسسات وسيادة القانون والنظام الجمهوري ومبدأ تداول السلطة… إلى آخر ما هنالك من مقومات الدولة الحديثة بنماذجها القائمة في قسم من دول العالم. بالمقابل هناك تياران رئيسيان في المشهد السياسي السوري، لا يتفقان مع هذه الرؤية، وهما التيار الإسلامي والتيار الكردي إذا جاز التعبير. لدينا أخيراً النظام الأسدي المتمسك بكل أسس ومبادئ الدولة الدكتاتورية المركزية المتمحورة حول رأس النظام والقائمة على أبديته وعدم قابليته لأي إصلاح أو تعديل.
وفي حين تتمتع التيارات الثلاثة الأخيرة بوجود واقعي وحيثيات اجتماعية متفاوتة القوة، يفتقر تيار «الوطنية السورية» إلى ذلك، إضافة إلى تشتت دعاته بين أفراد ومجموعات صغيرة لا تأثير يذكر لهم على مجريات الصراع. ليست هذه الحقائق بغائبة عن الكاتب ولا عن المقالة، ولا هو يحمل أوهاماً بشأن المستقبل، لكن النتيجة التي انتهى إليها التحليل ولخصها عنوان المقالة في أن «الفيدرالية تشكل مخرجاً للنظام الأسدي»، فيها إفقار شديد لممكنات الواقع. فلا الفيدرالية قابلة للتحقيق بمجرد الدعوة إليها، ولا النظام آيل للسقوط في فترة قريبة على رغم كل هزاله إزاء القوى الأخرى الحليفة أو الخصم، ولا القوى الدولية الفاعلة في الصراع تبدو قريبة من التوافق على حل سياسي يتضمن شكلا مركزيا أو فيدراليا أو تقسيماً أو غيره. والأهم من كل ذلك أن السوريين أنفسهم منقسمون تيارات شتى لا توحدهم رؤية جامعة لمستقبل البلد.
ربما من مهمة القوى السياسية أن تصنع الأمل وتلم شمل السوريين المنقسمين، ولكن بشرط عدم بيعهم أوهاماً أو التنكر لمعطيات الواقع وبضمنها التطلعات المختلفة لمختلف الجماعات السورية. فيكون السؤال الواجب طرحه هو: كيف يمكن اكتشاف مصالح مشتركة لغالبية كبيرة من السوريين الموزعين بين مختلف «الدويلات» السورية القائمة والمنافي القريبة والبعيدة، وإعلان ذلك بلغة وممارسة يمكنهما الوصول إلى مختلف الجماعات والأفراد وإقناعهم. أما شيطنة مفهوم الفيدرالية، على سبيل المثال، فهو لا يساعد على ذلك، تماماً كمحاولة فرض النظام الفيدرالي على الضد من إرادة أكثرية واضحة ومعلن عنها. كذا لا يمكن إقناع البيئة الموالية بمزايا النظام الديمقراطي أو أهمية الحريات الفردية أو تداول السلطة، بكلام مجرد وإيديولوجي لا يحسب حساباً للمصالح أو موازين القوى الاجتماعية، أو بتعداد جرائم النظام الأسدي، أو بمناشدة وطنيتهم السورية التي يختلفون في مضمونها مع الجماعات الأخرى.
من زاوية نظر قوى الأمر الواقع قد تكون دوافعها من المطالبة بالفيدرالية كما ذكر المقال، أي لتكريس سلطاتها في مناطق سيطرتها، وهي سلطات دكتاتورية بتنويعات مختلفة بطبيعة الحال، ما دامت قائمة أساساً على امتلاك السلاح. وصحيح أنها قابلة للتعايش مع بقاء النظام الأسدي إلى جوارها جغرافياً، وفي حالة «الإدارة الذاتية» في الشرق هناك تعايش حتى داخل المدينة الواحدة.
ولكن من زاوية نظر الجماعات السورية التي تحكمها سلطات الأمر الواقع، فالدافع يختلف إذا تعلق الأمر بدعوى الفيدرالية. ومن أجل الاختصار يمكن القول إن قسماً غالباً من الرأي العام الكردي ينظر بإيجابية إلى النظام الفيدرالي، من غير أن يعني ذلك تمسكاً بسلطات الأمر الواقع (حزب الاتحاد الديمقراطي أو تفريعاته) بل في تعارض معه عند كثيرين. بالمقابل ينظر القسم الأكبر من الرأي العام العربي بتوجس شديد، وغالباً بعدائية معلنة، إلى فكرة الفيدرالية، بوصفها مدخلاً إلى تقسيم سوريا كما يعتقد.
بعيداً عما يفهمه كل من سلطات الأمر الواقع وجمهوره المفترض من الفيدرالية، ونواياهما المبيتة، وبعيداً عن العداء الشديد المقابل لفكرة الفيدرالية، ليست هناك مؤشرات قوية لاقتراب حل سياسي للمشكلة السورية بتوافق الدول الفاعلة، وهو مدخل لا مفر منه سواء لإقامة نظام فيدرالي أو مركزي. لذلك من السابق لأوانه الحديث عن «إنقاذ» النظام الأسدي بواسطة طرح فيدرالية الدولة. فهناك احتمالات أخرى لإنقاذه من خلال التمسك بدولة مركزية أيضاً على رغم غياب مقوماتها حالياً. وما دام الأمر في إطار التحليل السياسي المجرد فلم لا يمكن الحديث أيضاً عن تفكيك نظام الأسد بواسطة نظام فيدرالي مفروض كقوة أمر واقع. فإذا فشلت الثورة السورية في تفكيكه مركزياً، فلا شيء يمنع من تفكيكه بالتقسيط، أي بصورة موضعية بدءاً من «شرق الفرات» كما يقال. وهذه هي الدعاوة الإيديولوجية لحزب الاتحاد الديمقراطي على أي حال: فرض نظام الإدارة الذاتية في مناطق سيطرته ليصبح ذلك نموذجاً قابلاً للتعميم على مستوى سوريا. عليّ القول هنا بأنني لا أتبنى هذه الدعاوى، فسجل الحزب المذكور من الانتهاكات كاف وحده لتدمير «جاذبية» النموذج. على ألا ننسى أن نموذج الدولة المركزية كما عرفناها «أقل جاذبية» بعد، ليس فقط لدى الكرد بل لدى سكان مختلف المناطق السورية أيضاً. بعيداً عن كل ذلك ثمة واقعة لا يمكن إنكارها هي أن أي قضم من نطاق تحكم النظام الأسدي، جغرافياً أو بنيوياً، هو نوع من تفكيكه وإن لم يكن كما أرادت غالبية كبيرة من السوريين الذين ثاروا ضده في العام 2011.
المصدر: القدس العربي