في الأعم الأغلب سوف يمضي الأسد بخطته، إلا إن حدث طارئ، أو إذا تحولت فورة الوباء – لا سمح الله – إلى حالة قاهرة. وما تجري الإشارة إليه هنا هو الاستفتاء على فترة رئاسية جديدة لبشار الأسد، تتحدى قوانين الطبيعة والمجتمع.
فقد صدر قرار بإجراء تلك الانتخابات في 26 أيار/مايو، وفُتح باب الترشيح المرسوم على الجدار الأصم، وزاد عدد المرشحين وطفح، بمجموعة من الأفراد من ضعاف الخلفية، أهمهم واحد يمثل قوة صغيرة ثائرة حتى على المعارضة الداخلية. وهنالك الكثير من المؤشرات المتكررة التي توحي بأن «المسخرة» لم تتغير، وما زالت مجرد تجديد رئيس لنفسه بموافقة الطغمة المحيطة به. ما تغير خلال السنوات السبع الماضية، لم يكن إلا انحداراً إضافياً ونوعياً بالدولة نحو الفشل، وبالسلطة إلى انعدام الشرعية بكل المعايير.
هنالك فوضى على الأرض وفي المواقف الإقليمية والدولية، تنعكس فوضى في الأوضاع السياسية، فقد تفجرت جداول القوى الموجودة، وتعددت ولاءاتها والأيديولوجيات التي تحملها – إن وُجدت- حتى صار تفكيك مشكلة تحدث في السويداء أو الحسكة أو الباب أو عفرين، مهمة فائقة الصعوبة أحياناً، ما لم نستسهل شتم الجميع والاعتصام بحبل «الثورة» دائماً كما يفعل بعضنا كثيراً. وربما تكون النقطة الممكن عزلها عن غيرها حالياً، هي كون الإيرانيين استمروا بموقفهم الثابت الداعم للنظام والأسد، والروس حسموا موقفهم في ذلك أيضاً، ولكن يبدو أن ذلك يحمل بعض المرارة للطرفين، بحيث لا يبدو أن انسجامهما مع النظام عميق، ولا توافقهما أو توافق تحركاتهما طويل الأمد.
*أول الأمثلة على هذه الحال صاروخ النقب، فلم يتضح حتى الآن من كان وراء استهداف تلك الصحراء، على بعد ثلاثين كيلومتراً من مفاعل ديمونا بصاروخ من جيل الستينيات، أثار في إسرائيل كثيراً من الجدل حوله. فعجز القبة الحديدية عن إسقاطه مشكلة إسرائيلية حكومية وعسكرية، يمكن معالجتها لاحقاً، ولكن معناه والمقصود منه هو ما أعجز المحللين في المنصات الإسرائيلية المعنية. كان الأسهل هو اتهام الإيرانيين بالوقوف وراءه، لأنه يشبههم أكثر، ولثقة الإسرائيليين بتعاونهم الاستراتيجي مع الروس. لم يفترض أحد أن» النظام» هو الفاعل، رغم كونه الفاعل المباشر. أكثر النتائج لفتاً للنظر، كان ما ورد في تحليل محترف في صحيفة «هآرتس» كان عنوانه «إن لإسرائيل وروسيا مصلحة مشتركة في سوريا: إبقاء الأسد «فوق» في الوقت الراهن». ثم جاءت خلاصته في سطوره الأولى على لسان خبير استراتيجي بالقول: «إن أي تغيير استراتيجي في سوريا يمكن أن يجعلنا نواجه أسئلة صعبة».. ذلك الصاروخ إذن جعل إسرائيل تمنحه صوتها.
*ثاني الأمثلة هو ذلك الخبر الإشكالي الذي مرّ هكذا عَرَضاً، عن «غارات روسية زادت عن المئتين، على معسكرين سريين للإرهابيين شمال شرق تدمر». تقول روسيا هذه المرة عبر ذلك الخبر الذي يستحيل التحقق من دقته، إن خطر الإرهاب ما زال كبيراً، لم يستطع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أن ينهيه، وأن فارس البيداء المجرب هنا هو الأسد.. ولعل هذا تصويت أول له من الروس.
*ثالث الأمثلة، وربما أكثرها أهمية هو اشتباكات القامشلي، بين القوى الأمنية (الأسايش) التابعة للإدارة الذاتية، التي يشكل الكرد نواتها الصلبة، في إطار أوسع هو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وخصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي المتداخل إلى هذا الحد أو ذاك مع حزب العمال الكردستاني (التركي) المتمركز في جبال قنديل في العراق. تسيطر الإدارة الذاتية على مدينة القامشلي، ما عدا مربع أمني ما زال النظام يديره في علاقة معقدة ومثيرة مع الكرد، وكذلك بعض الأحياء الجنوبية، وأهمها الحي الذي يقطنه أبناء قبيلة طي العربية، وتسيطر عليها «قوات الدفاع الوطني» وهي ميليشيات شكلها النظام في المدن والمناطق، لمساعدته على التصدي للمعارضة منذ الثورة في 2011. هنالك أياد إيرانية عضوية التداخل، ويدٌ روسية جاِثمة بظل ثقيل وذات نفوذ، والكثير من عناصر التشبيح التي يشجعها النظام. اصطدم الطرفان نتيجة لاعتداء أحدهما على حاجز للآخر وقتل أحد القياديين، واشتعلت أصوات القتال، وفيها نداءات للنخوة العربية تطلب استنفار و»فزع» القبائل والعشائر العربية، في إثارة إضافية للنيران. ما هو ظاهر وأقرب إلى الأكيد، هو أن النظام يريد فرض مساهمة أهالي المنطقة في «احتفالات» العملية الانتخابية، وكسر تمنع الإدارة الذاتية ومقاطعتها لتلك العملية. هنالك أصوات ثلاثة للأسد، من الإيرانيين والروس وبعض العشائر اللاجئة إلى حضن الأسد من طغيان القوة الكردية وحلفائها.. وتجري الآن تصفية النتائج، من خلال اتفاق يعكس ميزان القوى، ربما يقايض به النظام وحلفاؤه تسليمهم ببعض التنازلات لقسد، المدعومة من الولايات المتحدة، بتصريحات الجنرال ماكينزي مباشرة، في مقابل تسهيل العملية الانتخابية، أمام الإعلام وشكلياً على الأقل، وربما أقل أو أكثر. وفي الحقيقة، فإن أسوأ ما يجري هناك هو الحفر عميقاً في تأصيل الصراعات العنصرية وإذكاء أوارها.. وهذا ضرر سوف يؤثر في المستقبل ما لم يجرِ تداركه بالسرعة المناسبة.
لعل الروس والإيرانيين وأشتات نظام الأسد معاً، يحاولون التمهيد والتأثير في ناحيتين: أولاهما التصويت المقبل على تجديد فتح المعابر، الذي يرغبون من خلال تعطيله سد الطرق على الملايين المشردة في الشمال وإرهابها بحرب تجويع، طالما سلك النظام طريقها. وثانيهما، تحسين الشروط المترافقة مع معالجات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، التي يُحتمل أنها سوف تتبلور في فترة قريبة من منتصف العام، بشكل ربما يتواقت مع تصويت مجلس الأمن المذكور. ربما يحتاج الروس إلى استمرار الأسد لسبع سنوات أخرى، ولو كان خيال مآته، أو أن هذا ما رأوا في النهاية أنه الأفضل لسياساتهم في المراحل المقبلة، تكريساً لاتفاقاتهم مع هذا النظام نفسه، وحتى يحموها من العبث بها أو إلغائها. وربما يريد الإيرانيون الاستمرار بالإمساك بالورقة السورية، ليس من أجل المقايضة ببعضها في المفاوضات، التي ستزداد حرارتها قريباً؛ بل كذلك من أجل طموحات استراتيجية أخرى أكثر بعداً باتجاه المستقبل.
الغائب الوحيد هو بديل النظام، الذي كان يمكن لو أنه موجود بما يقنع الآخرين، أن تختلف كل المعادلات، وفي ذلك مسؤولية كبرى على القوى الإقليمية التي منعت بشكل مباشر أو غير مباشر تطوير معارضة سياسية فاعلة ومنظمة، ومسؤولية أكبر على المعارضين السوريين.. الضعفاء أمام «الخارج» المؤمنين بقدراته الخارقة. لن تأتي الاستراتيجية الأمريكية المقبلة بجديد قادر على بناء سوريا من غير السوريين. وما هو محمود ومشكور حتى الآن، في الجهتين الأمريكية والأوروبية، تعميق وتحصين الحفرة التي يتم تحضيرها لأهل جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي لن يترك مجالاً لأي ادعاء بأي شرعية، سواءٌ بانتخابات أصبحت أكثر من مهزلة، أو من دونها.
المصدر: القدس العربي