أطلقت منظمة الصحة العالمية أكبر حملة تطعيم في تاريخ البشرية، بهدف توزيع الجرعات على 190 دولة والحد من مخاطر الطفرات الخطيرة لفيروس كورونا المستجد. لكن المشروع سباق مع الزمن.
يقف الرجل الذي يحاول إنقاذ العالم في حضانة للأطفال في ولاية كونيتيكت، حاسوبه المحمول أمامه والشمس تسطع عبر النافذة على سرير طفل. وثمة هاتف جوال يغفو في الريح.
ويبدو بنيامين شرايبر البالغ من العمر 46 عامًا، حافي القدمين ومشعث الشعر، وكأنه نهض من النوم للتو، لكنه استيقظ، كما هو الحال في كل يوم تقريبًا، منذ شروق الشمس. وينتمي عمل شرايبر إلى أهم وأصعب الأعمال في العالم. إنه مسؤول، بصفته نائب رئيس التحصين في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، عن ضمان وصول ملياري جرعة من لقاحات “كوفيد -19” إلى الناس في أفقر البلدان وأبعدها في العالم.
ينحني الألماني على مكتب مرتفع من النوع الذي يعمل عليه المرء واقفاً، وتظهر امرأة ورجلان على شاشة الحاسوب المحمول أمامه. إنهم زملاء من (اليونيسف) يعملون في بنما وهايتي.
يناقش شرايبر “صداعه” لهذا اليوم: ثمة دولتان توقَّف فيهما التقدم. ويقول، مشيراً إلى دولة يصعب على الغرباء الوصول إليها: “ليس من الواضح كيف تسير الأمور”. وفي الأخرى، هاييتي، تأخر وصول شحنة أولى ممكنة من اللقاحات. ويبدو أن فريق التطعيم جاهز هناك، لكن المشاكل السياسية والاجتماعية تعوق الشحنة. والوقود في هاييتي باهظ الثمن، والطرق رديئة، والميزانيات سيئة الحساب. ولا يثق العديد من الهايتيين أيضًا بالمساعدات الغربية، والبعض لا يؤمنون حتى بوجود “كوفيد -19” من الأساس. وإذن، ماذا الآن؟
لدى شرايبر محادثات مثل هذه كل يوم. وعلى نطاق ضيق، غالبًا ما تتضمن أسئلة حول الطريقة الصحيحة لتبريد اللقاح، والبراعة في التعامل مع الحكومات. لكن القضية الأساسية دائمًا هي العدالة العالمية.
انتشر فيروس كورونا الجديد في كل قارة، وأصاب ما لا يقل عن 128 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. وحطم الاقتصادات ودمر العائلات. ويعيش العالَم في حالة طوارئ صحية ما تزال سارية منذ أكثر من عام الآن.
ولكن، حتى مع حصول المواطنين الأوائل في العديد من البلدان الصناعية على الحماية أخيرًا من الفيروس، ما يزال الكثير من الناس في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ينتظرون بدء التطعيم في بلدانهم.
حتى الآن، تم إعطاء ما يقرب من 600 مليون جرعة من اللقاحات في جميع أنحاء العالم. لكن ما يقرب من ثلثيها أعطي للناس في ستة بلدان فقط. وتم تطعيم حوالي 60 بالمائة من الإسرائيليين بجرعة واحدة على الأقل، أي أقل بقليل من نصف البريطانيين، وواحد من كل 10 من الألمان. وفي المقابل، في ناميبيا التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني نسمة، تلقى أقل من 1.500 من المواطنين جرعة من اللقاح. وفي البلدان الأفريقية الأخرى، لم يتم إعطاء أي شخص جرعة واحدة حتى الآن.
في وقت سابق من هذا العام، حذر تيدروس أدهانوم غيبريسوس، رئيس منظمة الصحة العالمية، من “فشل أخلاقي كارثي”. لكن هناك محاولة لمنع هذا الفشل: مشروع يسمى “كوفاكس”، وهو نوع من نادٍ من المشترين الدوليين الذين يهدفون إلى شراء وتوزيع لقاحات “كوفيد -19”. وكانت منظمة الصحة العالمية قد أسست المبادرة قبل عام، ويشارك فيها أيضًا تحالف اللقاحات المسمى “غافي” GAVI، والتحالف من أجل ابتكارات التأهب للوباء (CEPI)، وكذلك تفعل كل دولة في العالم تقريبًا.
والهدف هو أن يتلقى أفقر 92 عضواً أكبر عدد ممكن من اللقاحات وبسرعة تماثل حصول أغنى 98 عضوًا عليها. وتدفع الدول الغنية المزيد من الأموال للمبادرة، بينما تهدف الدول الأكثر فقراً إلى الحصول على لقاحات مخفضة الثمن أو مجانية، بهدف تمكين كل دولة من تلقيح خُمس سكانها بحلول نهاية العام. وصاحب العمل الذي يعمل فيه شرايبر، (اليونيسف)، مكلف بضمان وصول اللقاحات إلى وجهاتها.
ليست هذه المبادرة أقل من محاولة لتطعيم كل البشرية بشكل منصف بغض النظر عن العرق أو الثروة. وتريد “كوفاكس” أن تجعل من الممكن للجميع أن يأخذوا من وعاء واحد. وهي مشروع على نطاق ربما لا يساويه سوى الكفاح ضد تغير المناخ. وكما هو الحال مع تغير المناخ، فإن الوقت عنصري جوهري في عمل المبادرة.
الفيروس يتحور باستمرار. وليس لمعظم المتحورات تأثير على مدى الخطر الذي يشكله الفيروس، لكن لبعضها -مثل تلك التي ظهرت في البرازيل والمملكة المتحدة- تأثير. وكلما زاد عدد البلدان التي تواجه تفشيات خارجة عن السيطرة، زاد احتمال أن يضطر العالم إلى لتعامل مع المزيد من الطفرات، حتى تلك التي ربما تتجنب ذات يوم الحماية التي توفرها اللقاحات حالياً. وحتى لو تم تطعيم جميع البالغين الألمان بحلول نهاية العام، فقد يعود الفيروس مرة أخرى أكثر خطورة مما كان في السابق.
وإذن، كيف يمكن تطعيم الأشخاص الأكثر عرضة للتهديد -كبار السن، والمرضى، والعاملين في مجال الرعاية الصحية- في جميع أنحاء العالم؟ كيف يمكن لمشروع “كوفاكس” أن يحقق أهدافه الطموحة؟
تابع فريق من مراسلي “دير شبيغل” اللقاحات في رحلتها حول العالم. سافروا إلى مصانع اللقاحات في الهند؛ وإلى مستودع في كوبنهاغن حيث يُدار شحن اللقاحات؛ وكل الطريق وصولاً إلى إحدى الوجهات النهائية: إلى العاملين في مجال الرعاية الصحية في ملاوي الذين تلقوا أول جرعات اللقاح في آذار (مارس). وشاهدوا كيف يخطط ألماني في دار للحضانة بالولايات المتحدة لتوزيع اللقاح.
الولايات المتحدة: استبيانات ضد “كوفيد -19”
بينما ينهمك شرايبر في محادثات الفيديو مع أشخاص من جميع أنحاء العالم من منزله الخشبي في ولاية كونيتيكت، تتدافع بناته الصغيرات حوله. كانت زوجته، بريا، الحامل في شهرها التاسع، تأتي للزيارة من حين لآخر.
يجلس شرايبر، الذي لا يبدو كشخص يمكن إقلاق هدوئه بسهوله، إلى طاولة المطبخ. وهو يعمل مع (اليونيسف) منذ ثمانية أعوام. ويقول إن التحدي الأكبر في العام الماضي كان “تهيئة البلدان” للتعامل مع اللقاحات في وقت قصير.
الهدف المعلن لـ”كوفاكس” هو شحن نحو ملياري جرعة بحلول نهاية العام 2021، وهو ما يمثل حوالي 850 طنًا من اللقاحات شهريًا ومليار محقن. ويجب إيصال الآلاف من صناديق التبريد إلى أبعد المناطق النائية في العالم بواسطة سيارة جيب، أو قارب، أو طائرة مسيّرة أو عربة تجرها الحمير.
حتى في الأعوام العادية، تقوم (اليونيسف) بتلقيح كل ثاني طفل تقريبًا في العالم. لكن منظمة مساعدة الأطفال هذه لم تواجه جائحة عالمية من قبل. وعادة ما يتم التخطيط لحملات التطعيم لأعوام مقدمًا، ولكن لم يكن هناك سوى بضعة أشهر هذه المرة. والبلدان المتلقية متنوعة للغاية؛ بعضها لديه اقتصادات مزدهرة والبعض الآخر دول فاشلة. ويبلغ عدد سكان بعضها بضع مئات من الآلاف، ويزيد سكان البعض الآخر على مليار نسمة.
طُلب من البلدان أن تشرح كتابة لليونيسيف كيف خططت لإدارة لوجستيات التطعيم -أي جزء من السكان تريد تطعيمهم وكيف خططت لتوزيع اللقاح، من المطارات إلى بقية أنحاء البلاد. وقرأ شرايبر أكثر من 100 من هذه الخطط المطولة، معظمها مرتين. وقام بتعديلها وقدم توصيات للتحسين. وسارت الأمور بشكل جيد في معظم الأوقات، لكنها في بعض الأحيان لم تنجح على الإطلاق. ما تزال حكومات تنزانيا وإريتريا ومدغشقر تنازِع حتى يومنا هذا فكرة أن “كوفيد -19” مرض خطير. وفي الوقت الحالي، لا أحد يعرف من هو الذي في السلطة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
لكن الجهد كان يستحق العناء. في 24 شباط (فبراير)، وصلت أول دفعة من لقاحات “كوفاكس” إلى غانا. كما تم التخطيط الآن لتسليم أول شحنة إلى هاييتي. وبحلول نهاية آذار (مارس)، كانت اليونيسف قد سلمت 20 مليون جرعة إلى 47 دولة.
الهند: قوة المصنّعين
تأتي معظم جرعات اللقاح من بلد ليس ثريًا في حد ذاته، ولكنه مهم للغاية عندما يتعلق الأمر بإنتاج اللقاح العالمي: الهند. ويقع مقر معهد الأمصال في الهند في بيون، في غرب البلاد. وفي الوقت الحالي ينتج المصنع، أكبر مصنِّع للقاحات في العالم، نحو 2.4 مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا يوميًا.
هذا هو المكان الذي يتم فيه إنتاج اللقاح الذي من المفترض أن يصل إلى أجزاء كبيرة من العالم بسعر لا يمكن تكراره بأي حال من الأحوال في أي مكان آخر.
يرتدي عامل في الشركة بدلة واقية بيضاء وشبكة شعر وقفازات قبل فتح باب غرفة معادلة الضغط في الطريق إلى المختبر. وتتدحرج البضائع القيمة عابرة خلف الزجاج الواقي. وثمة فوهات مؤتمتة بالكامل تملأ اللقاح في قوارير زجاجية. ومع أن حجمها لا يتجاوز بضعة سنتيمترات فقط، فإنها يمكن أن تنقذ اقتصادات بأكملها.
من بين أكثر من 39 مليون جرعة لقاح شحنتها “كوفاكس” حتى الآن، جاءت 28 مليون من المختبرات في بيون. والهنود هم الموردون الرئيسيون لـ”كوفاكس”. وفي الوقت الحالي، ينتجون في الغالب لقاح “أسترا-زينيكا” AstraZeneca البريطاني-السويدي.
لفترة من الوقت، كانت الطائرات تقلع كل يوم تقريبًا محملة باللقاحات المخصصة لأماكن مثل جيبوتي أو البرازيل أو مولدوفا. لكن حكومة الهند شرعت في أواخر آذار (مارس) في خفض صادرات اللقاح إلى الحد الأدنى.
الآن ترتفع أعداد الإصابات بفيروس كورونا في الهند بوتيرة أسرع مما كانت عليه في أشهر، ومن المقرر تطعيم ملايين المواطنين في الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة في الأسابيع المقبلة، ولذلك قررت الحكومة في نيودلهي تخزين اللقاحات. وبالنسبة لـ”كوفاكس” وحدها، يعني هذا تأخير تسليم 90 مليون جرعة إلى 63 دولة متلقية.
وقد يستمر هذا المأزق حتى أيار (مايو). وثمة مورِّد في كوريا الجنوبية كان يمكن أن يساعد، لكنه يتعامل الآن مع مشاكل الإنتاج. وفي الوقت الحالي، لا يوجد بديل آخر للإنتاج في الهند.
بعد مرور حوالي عام على بداية الوباء، حدث التطور الذي أراد المجتمع الدولي منع حدوثه: العالم ينقسم إلى قسمين، بين دول تقوم بتلقيح مواطنيها وأخرى لا تتمكن من ذلك، ويستطيع أن يشاهد فقط بينما تحصل الدول الغنية على جرعاتها دون الآخرين.
“لا أحد في مأمن حتى يصبح الجميع بأمان”. كان هذا هو الادعاء الذي سُمع غالباً في المراحل الأولى من جهود توزيع اللقاح، بما في ذلك من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ومن الأطباء والمساعدين. كانت فكرة جيدة أننا عندما نواجه الفيروس، فإننا نكون جميعًا سواسية.
ولكن، كلما اقتربت اللقاحات الأولى زاد توتر القادة السياسيين، وزاد قلق مواطنيهم أيضًا. وبدلاً من العمل معًا، طلبت الدول الغنية اللقاحات بشكل مستقل، وأحيانًا ضعف أو أربعة أضعاف ما هو ضروري لها. وكان على “كوفاكس” والبلدان منخفضة الدخل أن تتدبر أمورها بما تبقى. لم يعد الأمر يتعلق بحق كل شخص في الحماية، وإنما ببقاء الأقوى. وحتى يومنا هذا، لم تتغير دينامية القوة هذه كثيراً.
وكانت الأنانية التي تتميز بها هذه الفترة هي السبب أيضاً في اشتغال أناس، مثل منير بوعازر، في إدارة هذا النقص.
كوبنهاغن: مركز اللوجستيات
يرتقي بوعازر، رئيس قسم الخدمات اللوجستية لـ”كوفاكس” في كوبنهاغن، الدرج المعدني في صباح أحد أيام شهر آذار (مارس). وللرجل البالغ من العمر 39 عامًا نقرة في الذقن وحس دعابة خفي. “ثلاثة إلى أربعة أشهر” -هذه هي المدة التي أتيحت له للتحضير لبدء عمليات التسليم الأولى. ويقول إنه لم ينم كثيرًا في العام الماضي. “أنا لا أحسب الساعات حقًا. بالنسبة لي شخصيًا، ليست هذه مجرد وظيفة”.
يقف بوعازر فوق أكبر مستودع للمساعدات الإنسانية في العالم. ويحتوي مجمع التخزين الذي تبلغ مساحته 20.000 متر مربع (215.000 قدم مربعة) على عشرات الآلاف من المنصات الخشبية التي تحمل بضائع لأفقر الناس في العالم. وتقوم الرافعات الروبوتية بنقل الصناديق من زاوية إلى أخرى: الأدوية، وكرات القدم، والدفاتر المدرسية، ومعدات تنقية المياه، والأغذية الخاصة للأطفال الجائعين، ومؤخراً، المحاقن المستخدمة في التطعيمات.
وتندفع الرافعات الشوكية وسط الرافعات العمودية. وتغادر المساعدات مركز كوبنهاغن اللوجستي عندما تحدث كارثة في مكان ما في العالم، مثل حرب أو زلزال -أو وباء.
بحلول نهاية العام 2020، كان بوعازر قد أمّن توزيع نصف مليار محقن على مستودعات (اليونيسف) الأربعة في كوبنهاغن ودبي وبنما وشنغهاي. والآن، مع نهوض مبادرة “كوفاكس” وانطلاقها، تحتاج آلاف اللقاحات إلى الوصول إلى وجهاتها كل يوم، بشكل مثالي في الوقت نفسه -أو بعد وقت قصير من وصول المحاقن المستخدمة لحقن اللقاحات.
ويعقد الوباء مهمة بوعازر. هناك عدد قليل من الرحلات الجوية، أو أنها غير موجودة، بسبب قيود السفر. وقد تقلص جدول الرحلات الجوية العالمية ولم تتجه طائرات أي من الدزينة ونصف الدزينة من شركات الطيران التي تعهدت بمساعدة (اليونيسف)، على سبيل المثال، إلى تيمور الشرقية أو جزر المحيط الهادئ. واللقاحات والمحاقن المتوجهة إلى اليمن الذي مزقته الحرب، على سبيل المثال، يجب نقلها عبر نيروبي، حيث يستأجر بوعازر طائرة لا تحمل سوى بضعة آلاف من زجاجات اللقاح والمحاقن. وهذه الجولة اللوجستية الإجبارية هي كارثة مالية. لكن بوعازر يقول، “لا ينبغي أن تظل أي جرعات معطلة في أي مكان، مهما كانت صغيرة”.
ويأمل بوعازر في شحن المزيد من اللقاح في النصف الثاني من العام. “إذا كانت لدينا شحنات أكبر، فسيمكنك إيجاد حلول للاستئجار”. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيواصل إرسال الكثير من الطرود الصغيرة على متن طائرات كبيرة فارغة. وثمة فكرة واحدة قد تجعل مهمة بوعازر أسهل، والتي تخضع حاليًا للنقاش الساخن بين السياسيين والناشطين: تعليق حقوق الملكية الفكرية للقاحات بحيث يقتصر ذلك على مدة الوباء. وقد تقدمت الهند وجنوب إفريقيا بطلبات إلى منظمة التجارة العالمية لتعليق براءات الاختراع الخاصة بلقاحات وعقاقير “كوفيد -19″، بدعم من 100 دولة. وإذا حدث ذلك، ستكون شركات أخرى قادرة على إنتاج اللقاحات.
حدث هذا أثناء جائحة الإيدز، عندما كان مليونا شخص يموتون بسبب المرض كل عام في الجنوب الأفريقي في مطلع الألفية. في ذلك الوقت، انتهكت شركات الأدوية المكافئة الهندية قانون براءات الاختراع الدولي وأنقذت ملايين الأرواح بأدوية ميسورة التكلفة. وفي المقابل، تجادل شركات الأدوية الكبرى بأن هناك حالياً، على عكس ذلك الوقت، نقصاً في المواد الخام والخبرة، ولذلك ليس لهذا الطلب معنى.
صحيح أنه لا يمكن أن يكون هناك ابتكار من دون عائد على الاستثمار، لكنَّ من الصحيح أيضًا أن قلة من الناس فكروا في كيفية منح الجنوب العالمي الأدوات اللازمة لمكافحة الوباء -ولا حتى المبادرين إلى تأسيس “كوفاكس”. ويبقى الانتقاد الأكبر الموجه إلى المبادرة هو أنها تحول البلدان الضعيفة مالياً إلى متوسلين ولا تمكِّنها بأي شكل من الأشكال من مساعدة نفسها.
مالاوي: أمل ضعيف
في 5 آذار (مارس)، تم تفريغ أول 360 ألف جرعة من اللقاح على مدرج المطار في ليلونغوي، عاصمة ملاوي، من طائرة تابعة لطيران الإمارات. وأشار وزير الصحة في ملاوي إلى الصناديق الكرتونية البيضاء بملصقات “كوفاكس”، وقال: “هذا هو الأمل. الأمل للأطفال، والأمل للسلطات الصحية، والأمل لنا جميعًا”.
يعمل معظم سكان ملاوي البالغ عددهم حوالي 20 مليون نسمة كمزارعين. وقد نجح البلد في اجتياز الموجة الأولى من الفيروس بشكل أفضل مما توقعه الكثيرون. لكن الموجة الثانية ضربته بشدة. واكتظت مستشفياته بالأحمال الزائدة، وعانى من نقص الأكسجين وتم تحويل ملعب لكرة القدم وأحد المقرات الرئاسية إلى مستشفيات للطوارئ.
بعد 12 يومًا من وصول الجرعات الأولى، يقف خبير التطعيم، ستيف ماتشيسو، مرتديًا قميص اليونيسف الفيروزي في مستودع في ليلونغوي. وتصطف عشر غرف للتبريد بجانب بعضها بعضا. وثمة البقايا الأخيرة من شحنة “كوفاكس” في أبعد غرفة في الطرف الشرقي من المستودع. وتُسمَع قعقعة من وحدات التبريد في الداخل. وتقف اثنتان من الشاحنات التي ستنقل اللقاحات إلى مستشفيات الدولة والمراكز الصحية في الخارج.
يحتاج لقاح “أسترا-زينيكا” للتبريد إلى 2 إلى 8 درجات مئوية فقط (36 إلى 46 درجة فهرنهايت)، ما يجعله جذابًا للعديد من البلدان. ولكن، بالنسبة لدولة فقيرة مثل ملاوي، حتى هذا يمكن أن يكون مشكلة. بعض أجزاء البلد يصلها تيار كهربائي متقطع فقط، وهناك، على سبيل المثال، نقص في قطع غيار موازين الحرارة. والآن، خلال موسم الأمطار، غالباً ما تتحول الطرق إلى برك من الوحل. وفي اليوم السابق، علقت سيارة تحمل لقاحات في الوحل لست ساعات. وسبق أن تلفت جرعات من اللقاح من قبل.
لمعالجة المشكلة، قامت اليونيسف بشراء أسطول من الدراجات النارية. ويقول ماتشيسو: “نحن نبحث أيضًا عن قوارب في الوقت الحالي”.
من الواضح مسبقاً في بعض البلدان أن الجميع لا يتمتعون بالفرص نفسها، حيث يتم تطعيم سكان المدن قبل سكان الريف، والنخبة قبل سكان العشوائيات. وهناك أيضًا دول مثل سورية، حيث تتولى الميليشيات زمام الأمور في أماكن لا تتواجد فيها الحكومة. ويعطي آخرون الأولوية لتطعيم الجيش على العاملين الصحيين.
وتحاول (اليونيسف) التأثير بهدوء على التوزيع، لكنَّ الأمر متروك للبلدان لتقرير ما تريد فعله بنصيبها من اللقاحات. وتنتهي سلطة “كوفاكس” في المطار. وفي الحقيقة، على الرغم من ذلك، غالبًا ما يرافق العاملون في (اليونيسف)، بمن فيهم ماتشيسو البالغ من العمر 40 عامًا، اللقاح إلى أبعد من ذلك.
في طريقه إلى مركز صحي في نجانجا بوسط ملاوي، تمر سيارته الـ”لاندكروزر” بحقول الذرة والأسواق والقرى. ويعلم ماتشيسو أن تطعيم العاملين الصحيين هو الجزء السهل. أما الجزء الأصعب فيأتي بعد ذلك: إيصال الجرعات إلى بقية السكان. “هذا هو المكان الذي نتوقع فيه بعض المقاومة”، يقول ماتشيسو بينما يحاول الوصول إلى نظام الوقت الفعلي على حاسوبه المحمول، والذي يخبره بعدد الأشخاص الذين تم تطعيمهم بالفعل. وبعد لحظة يقول: “تم إدخال البيانات بنسبة أقل من النصف بقليل من المقاطعات. تم تسجيل حوالي 4.377 شخصًا اللقاحات هناك”. ويبدو سعيداً.
لكن هناك بعض التقارير التي تزداد سلبية باطراد حول لقاح “أسترا-زينيكا” والتي يتم تداولها عبر الإنترنت مؤخرًا. ويقول ماتشيسو: “نحن ندعم الحكومة في حملات التوعية. لكن النظر إلى أوروبا يصيبني بالقشعريرة”، وذلك لأن ملاوي التزمت باستخدام لقاح واحد فقط: “أسترا-زينيكا”، الذي أثار مشاعر عدم الثقة بعد ورود التقارير عن حدوث جلطات قاتلة لدى بعض متلقيه.
تنعطف سيارة ماتشيسو إلى طريق ترابي ضيق وتتوقف أمام مبنى منخفض مبني من الطوب. ويجلس موظفو المركز الصحي على مقاعد طويلة من الأسمنت. سيتم تطعيم أربعة عشر رجلاً وامرأة. ولم يحضر خمسة موظفين.
تُحدّث لوسي كاكوا، قائدة الفريق، الحاضرين عن الآثار الجانبية المحتملة، مثل الصداع والحمى. وتقول: “نحن سعداء بتلقي المطعوم الآن”، موضحة أن مخاوف العاملين الصحيين قد ازدادت أيضًا وسط الموجة الثانية. ثم تشمر الممرضات والممرضون عن سواعدهم، وبينما يتساقط المطر على سقف الصفيح، يقوم زميل في معطف أزرق بتجهيز الحقن.
وتشرح كاكوا: “أولاً، نقوم بتطعيم الناس في النظام الصحي والاختصاصيين الاجتماعيين، ثم الأشخاص الذين يعانون حالات مرضية مسبقة، ثم كبار السن”. وفي الأسبوع التالي، كما تقول، سيبدأون حملات التوعية في القرى.
تحتاج مالاوي إلى 7.6 مليون جرعة لتلقيح 20 في المائة من سكانها بشكل كامل. ويتوقع البلد تلقي 900.000 جرعة إضافية من “كوفاكس” قريبًا، لكن ماتشيسو لا يعرف بالضبط متى ستصل هذه الجرعات. يجب أن يكون هناك لقاح يكفي لحوالي 60.000 موظف في قطاع الصحة، وإنما ليس أكثر من ذلك بكثير في هذه المرحلة.
الآن، يحذر بعض الخبراء مسبقاً من أن السكان في العديد من البلدان الفقيرة لن يتلقوا المطاعيم حتى العام 2024. وطلب رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس، مؤخرًا من الدول الغنية التبرع بجرعات من اللقاحات -10 ملايين جرعة لـ20 دولة لم تتلق حتى ولو دفعة واحدة من “كوفاكس” حتى الآن.
قدمت ألمانيا ما يقرب من مليار يورو لمبادرة “كوفاكس”، لتكون بذلك من أكبر المانحين. لكن برلين لا تريد أن تتخلى عن لقاحاتها الخاصة، مثل الكثير من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. هناك، قال الرئيس جو بايدن، “إذا كان لدينا فائض، فسنشاركه مع بقية العالم. لكننا سنبدأ بالتأكد من رعاية الأميركيين أولاً”.
ومع ذلك، فإن اللقاحات، التي تعد حاليًا سلعة نادرة، يمكن أن تتراكم قريبًا. وتشير التقديرات إلى أنه يمكن توفير ما بين 9 و12 مليار جرعة من اللقاح بحلول نهاية العام. وسيكون تحقيق مناعة القطيع العالمية في متناول اليد، ولكن فقط إذا أمكن توزيع الجرعات بالتساوي في جميع أنحاء العالم.
سوف يعني هذا أن يتم تطعيم العديد من الأفارقة والآسيويين والأميركيين اللاتينيين قبل العديد من الإيطاليين أو الفرنسيين أو الألمان. وقد يعني ذلك أن البلدان ستحتاج إلى مشاركة لقاحاتها -البلدان التي تعاني إحباطا كبيرا لدى مواطنيها مسبقاً والتي يتزايد فيها الضغط على الذين في السلطة. وعلاوة على ذلك، ستنتخب ألمانيا برلمانًا ومستشارًا جديدين في الخريف.
لسياسة التلقيح في الدول الصناعية عواقب تتجاوز صحة الناس. وتتعلم الدول النامية مرة أخرى من هو الذي يمكنها الاعتماد عليه ومن هو الذي لا يمكنها الاعتماد عليه.
في بداية هذا العام، نقل عمال الإغاثة في نيبال صناديق التبريد المعبأة باللقاحات إلى القرى الجبلية في جبال الهيمالايا. وأرسلت الهند إلى جارتها مليون جرعة من اللقاح في وقت مبكر. ثم، في أوائل آذار (مارس)، قدمت “كوفاكس” دفعة متواضعة من الجرعات. وبعد ذلك توقف التدفق. وفي 17 آذار (مارس)، علقت الحكومة هناك برنامج التطعيم.
وفي الأسبوع الماضي، كان هناك مرة أخرى سبب للاحتفال لدى النيباليين. وصلت شحنة من 800.000 جرعة من اللقاح إلى مطار كاتماندو -هدية من صديق يشتبه كثيرون في أن له دوافع سياسية خفية. لم تأت الهدية من “كوفاكس” ولا من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. جاءت من الصين.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: Inside COVAX’s Mission to Save the World
*قائدة الفريق لوسي كاكوا في نغانجا، مالاوي: “النظر إلى أوروبا يصيبني بالقشعريرة”.
المصدر: الغد الأردنية/ (دير شبيغل)