رحل ميشيل كيلو بعد أن حمل مشعل النضال ضد الاستبداد، ومن أجل الحرية بالموقف والرأي والكلمة، وقبع سنوات في سجون النظام البعثي مع الأب والابن، فكان له “في كل عرس للمعارضة قرص”، وظل حتى الرمق الأخير يكافح من أجل الحرية ويدافع عنها، ويوصي السوريين بالتمسّك بها، في رسالة مطولة كتبها قبل عشرة أيام من رحيله، قائلا: “لن يحرّركم أي هدف غير الحرية، تمسّكوا بها ولا تتخلوا عنها أبدا، لأن فيها وحدها مصرع الاستبداد”. ومن مفارقات الزمن أن كيلو يرحل فيما يستعد بشار الأسد للتجديد لنفسه للمرة الرابعة على رأس النظام، في محاولةٍ لتأبيد سلطته على رقاب السوريين. وهذا يسلّط الضوء على لامبالاة المجتمع الدولي، وتخاذل الدول الكبرى في ممارسة ضغوط جدية على النظام لفرض تطبيق القرارات الدولية (قرار مجلس الأمن 2254) التي تنص على رحيل الأسد، وانتقال تدريجي للسلطة. سورية اليوم معرّضة للتقسيم، بعد أن تحولت إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، ويجثم على أراضيها خمسة جيوش أجنبية غازية!
ولد ميشيل كيلو عام 1940 في اللاذقية، وانخرط باكرا في العمل السياسي، فانتسب إلى الحزب الشيوعي السوري الى جانب مجموعة من الرفاق، من بينهم المناضل رياض الترك، الذين آثروا الخروج فيما بعد بدافع الحفاظ على استقلالية رأيهم وقرارهم. وبعد أن درس الصحافة في مصر وتبعها بإجازة في ألمانيا، عاد إلى سورية، وعمل عام 1966 في دائرة الترجمة التابعة لوزارة الثقافة. غير أنه ما لبث أن استشعر خطورة ما يحاك في أروقة سلطة البعث، فخرج محذّرا من مغبة المنحى الذي سيسلكه وزير الدفاع يومها، حافظ الأسد، عندما انقلب على رفاقه في حزب البعث، واستولى على السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 1970، وراح يؤسس لنظام استبدادي يقوم على حكم الأجهزة الأمنية، ويبث روح التفرقة والبغضاء الطائفية والمذهبية.
عام 1979، خلال مؤتمر اتحاد الكتاب العرب في دمشق، شن الصحافي والكاتب السياسي، ميشيل كيلو، هجوما على ما عرفت يومها “الجبهة الوطنية التقدمية” التي اخترعها الأسد لاحتواء الأحزاب الأخرى، وقطع الطريق على أي محاولة لمعارضة حكمه، عبر إيهام تلك الأحزاب بأنها ستكون شريكا له في السلطة. وما هي إلا سنوات قليلة، حتى انتهى كيلو خلف قضبان سجن المزة السيئ الصيت، لأنه تجرّأ ووقف ضد محاكمة أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين، ممن قادوا تمرّدا على حكم الأسد عام 1982، كانت نتيجته أن قصف الأسد مدينة حماة بالمدفعية، وارتكب مجازر جماعية في حقهم. وبعد سنتين، خرج كيلو من السجن، وغادر أول مرة إلى فرنسا، حيث مكث هناك نحو خمس سنوات، استمر خلالها في المجاهرة بموقفه والكتابة، محرّضا على الحكم البعثي. ثم عاد عام 1989 واستمر في نشاطه السياسي والثقافي معارضا للنظام.
بعد عقود من الاستبداد، أي في يونيو/ حزيران 2000 “مات الديكتاتور” حافظ الأسد، على حد توصيف المعارض رياض الترك (صحيفة لوموند الفرنسية) الذي كان قد خرج قبل فترة بسيطة من اعتقال دام 17 عاما، بدا وكأن هناك فسحة أمام السوريين، ليتنفسوا الصعداء، ويحاولوا أن يستعيدوا حريتهم، والسعي إلى إحداث تغيير في بنية النظام السياسي. وقد شكّل توريث بشار السلطة بارقة أمل لمعارضين وكتّاب كثيرين، ومن ضمنهم كيلو الذي بدأ ينشط ضمن ما سمّي حينها “ربيع دمشق”، وراحت تنتشر المنتديات السياسية، وتنشأ “لجان إحياء المجتمع المدني” والكتابات والمقالات المواكبة في الصحف السورية الناشئة، وفي الصحف اللبنانية، والحملات التي راحت تشن على الفساد السياسي والاقتصادي الذي كان ينخر سورية بعد ثلاثين سنة من حكم الأسد الأب، إلا أنه سرعان ما تبين أن سياسة الابن لن تختلف عن سياسة الأب، وسيثبت الابن أنه ديكتاتوري وبطّاش أكثر من والده، فتم على وجه السرعة إغلاق المنتديات السياسية، وشنت حملة اعتقالات لمعارضين كثيرين.
لم ييأس ميشيل كيلو واستمر في نشاطه، على الرغم من أساليب القمع والترهيب التي اشتدت على مدى السنوات اللاحقة. ومع ذلك، تمكّن كيلو، مع مجموعة واسعة من المعارضين والتيارات والقوى السياسية، من تنظيم نفسها وإطلاق عام 2005 وثيقة سياسية من أجل التغيير، ونقل سورية من الاستبداد إلى الديمقراطية، أطلق عليها اسم “إعلان دمشق”، وتبعها في عام 2006 التوقيع على عريضة أخرى مع معارضين لبنانيين أطلق عليها “إعلان بيروت – دمشق”، تجسيدا للتنسيق والتكامل بين قوى الديمقراطية والتغيير في البلدين. وعلى إثر هذه الحراك اللافت، تم اعتقال كيلو مجدّدا وآخرين، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية”. وفي مرافعة شهيرة له أمام محكمة أمن الدولة، قال كيلو: “أنا الإنسان والمواطن الحر ميشال ابن حنا كيلو وغالية عوض، الذي ليس نصير جماعة في لبنان أو سورية، وليس نصير لأي حزب قائد أو منقاد ولأي ثورة سواء أكلت وطنها أم أكلت ناسها، لأنني نصير وطني الصغير سورية، ووطني العربي الكبير، ونصير كل مواطن فيهما، نصير الحرية والديمقراطية”.
في 15 مارس/ آذار 2011 تحقق ما حلم به ميشيل، وما سعى إليه طوال حياته، باندفاع السوريين إلى الشوارع، معلنين انتهاء “زمن الخوف”، وكسر القيود وانطلاق ثورة شعبية، وقف كيلو إلى جانبها منذ اليوم الأول. وهنا يروي كيلو لصديقه رامي الشاعر، عبر تسجيل صوتي قبل أسابيع من رحيله، كيف حاول النظام، وعبر وسطاء، الاستعانة به لإخماد الثورة. لم يتردّد في تلبية الطلب، لأنه كان يخشى مراوغة النظام وبطشه، ويريد أن يوفر على السوريين حمام الدم. ويروي كيف دخل إلى القصر الجمهوري، برفقة أرملة صديقه سعدالله ونوس، الفنانة فايزة شاويش، ليجتمع ساعة ونصف الساعة مع بثينة شعبان، مستشارة الأسد. وكشف أنه قدّم ورقة تقترح فتح حوار عن قضايا الشباب والعمل وتوزيع الدخل القومي، “لنقيم حوارا بحثا عن حلولٍ يعترف النظام خلالها بشرعية المعارضة، ويوقف الملاحقات الأمنية مقابل أن نعترف بشرعية النظام…”. ويتابع إنه شدّد على ألا يتم اللجوء إلى الحل الأمني، لأن المسألة لم تعد كما كانت عام 1980، إذ هناك مشكلة كبيرة في سورية اليوم، وليست مسألة تمرّد في إطار صراعات بين دول عربية أو خارجية. المشكلة هي تفرّدكم في حكم البلد والسلطة والثروة والإدارة والتعليم والإعلام وكل شيء.. ونبهت من أن أي حل أمني من فوق سيلاقيه حل أمني من تحت…”. ويكشف كيلو، في تسجيله الأخير، أن رد بثية شعبان كان: “والله ما بخلّوه”، وحين سألها عمن تقصد أجابت: “أستاذ ميشيل، إنت بدك مين يقولك شو الوضع بالبلد. ما بخلّوه”. ووقعت “الفأس بالرأس”، على حد تعبيره في ختام هذه الواقعة.
استمر من منفاه الباريسي على مبادئه ونهجه وقناعته، مناضلا شجاعا وصلبا من أجل حرية السوريين وتقدمهم. لم يراهن على الخارج، وبقي وطنيا تقدميا، علمانيا. لم يؤمن يوما بالعنف وغلّب دائما الحوار! أكثر من نصف قرن أمضاها كيلو بين زنازين “البعث” والمنفى، يقارع الاستبداد والقمع والظلم والتخلف، لم يُحبط، ولم تلن عزيمته، حتى في آخر أيام حياته.
المصدر: العربي الجديد