مع استكمال قوات النظام سيطرتها على جميع أحياء مدينة حلب أواخر العام 2016، عبّر كثيرون من سكّان المدينة الذين كانوا قد آثروا البقاء في مناطق سيطرة النظام عن ارتياحهم، لكن مشاعر الارتياح سرعان ما تلاشت، إذ غابت مؤسسات الدولة عن مفاصل الحياة في المدينة، بشكل كليّ تقريباً، لصالح ميليشيات وشبيحة تقاسموا حياة المدينة ومصير سكانها. تم تهجير أولئك الذين وقفوا ضد النظام، وتم رَكنُ من بقوا في أسفل قائمة الخدمات التي كانوا قد وُعِدوا بعودتها، و«طَفَشَ» – بالمصطلح الشعبي – تُجّارها وصناعيوها إلى مدن أو بُلدان أخرى، ليملأ فراغهم تجار جدد من أمراء الحرب ومستفيديها. أما «المواطن»، أياً كان توجهه، فكان عليه دفع الثمن في كل يوم، إذ غدت صورة الحلبي «المستور» غائبة أمام أزمات كثيرة، لا تبدأ عند حصته من الكهرباء والمازوت ولا تنتهي عند الإتاوات الكثيرة التي عليه دفعها ليبقى على قيد الحياة.
مشاهد يومية
ليس مشهد المعاناة الخدمية اليومي مقتصراً على حلب دون مناطق أخرى من سوريا، لكنه يظهر جلياً وعميقاً في المدينة الصناعية الأولى في البلد، إذ تعمّقت الهوة بشكل أوضح بين التجار الجدد والسكان، الذين غدوا في معظمهم تحت خط الفقر يبحثون في طوابير طويلة عمّا يسد الرمق.
لن نذكر أسماء من تحدثنا معهم خوفاً من محاسبتهم، ففي حلب تضيق مساحة التعبير والحرية إلى حدودها الدنيا، وتبدو القبضة الأمنية متفلّتة من أيادٍ وأسماء معروفة ببطشها، مثل الأفرع الأمنية وقادتها، ليتسلّمها أشخاص أُريدَ لهم السيطرة على المدينة، من شبيحة وقادة ألوية يرون في أنفسهم الحق في ملكية المدينة وإذلال سكانها ونهبهم، فيما تترك لهم «الدولة» الحبل على الغارب.
لا يحتاج أولئك لإذن في تنفيذ العقاب الجماعي بعد أن حولوا المدينة إلى قطاعات تحت تصرّفهم دون رقيب، كل ذلك يحصل دون رادع، ديدنهم في ذلك اقتضاء الدين المترتب على استعادة المدينة.
تقول سيدة مسنة إنها حصلت على «دلال غير مسبوق» من صاحب مَلحمة في المدينة، وذلك فقط لأنها طلبت منه «كيلوغرامين من اللحم» في بداية شهر رمضان. وضعَ لها كرسياً وسط المحل وأحضر لها فنجان قهوة. قالت إنه أخبرها إنه لم يحظَ بطلب كهذا منذ أشهر، وإن سكان المدينة الموسرين باتوا يشترون اللحم بـ«الأوقية»، وهي وحدة وزن لم يألفها الحلبيون ولا أصحاب المحلات. تعيش السيدة في حي السريان الواقع في القسم الغربي من المدينة، في منطقة كانت تُعرَف سابقاً بغنى سكانها. تقول إن حال الناس في تراجع، وإن الحوالات المالية وحدها ما يسند بطون العائلات من الجوع.
سيدة أخرى قالت إنها انتظرت ثلاثة أرباع الساعة لتستقل تكسي توصلها من السريان القديمة حتى باب الحديد. المسافة لا تتجاوز كيلو مترين، وسائق السيارة طلب لإيصالها أربعة آلاف ليرة سورية. تخبرنا السيدة أن العلاقات الاجتماعية باتت شبه مقطوعة: «صرنا نحسبا على إجرة الطريق»، تقول، و«بات الضيف ثقيلاً»، و«اجتماع الأسرة حتى أيام رمضان، كما جرت العادة، تحوّل إلى مصيبة».
لا سيارات أو حافلات في الطريق، الجميع يمشون على أقدامهم. بعض التكاسي التابعة لميليشيات معينة، أو التي تتعاون معها، هي فقط التي تحصل على حصتها من الوقود المقطوع، ويفرض سائقوها التسعيرة كما يريدون دون مفاصلة، و«إذا مو عاجبك روح مشي». الوصول إلى أمكنة العمل بات يكلّف في حالات كثيرة أكثر من الجلوس في المنزل. يتقاضى عامل المياومة في أحسن الأحوال نحو ستة آلاف ليرة يومياً، ينقص ذلك المبلغ عند الموظفين الحكوميين طبعاً.
المدارس أغلقت أبوابها باكراً، وحددت علامات النجاح بناء على الفصل الدراسي الأول، يقول أحد المدرسين: «هناك جيل من الأميّين ستخرّجه المدارس، التي تعاني منذ سنوات من نقص حاد في كل شيء، من أقلام اللوح حتى مياه الحمامات». ليس أمر إغلاق المدارس خاصّاً بحلب وحدها، بل في جميع المحافظات السورية، وليست كورونا هي السبب الرئيس في ذلك، وهو ما يبدو واضحاً بمراقبة الإجراءات الهشّة المتّبَعة في مواجهة الفيروس، بل تزامن إغلاق المدارس مع النقص الحاد في الوقود، الذي غيّب المواصلات اللازمة للوصول إلى المدارس، وأجبر حكومة النظام على تقليص دوام الموظفين في مختلف القطاعات، وإيقافه نهائياً في قطاع التعليم.
على الطريق «سوزوكيات» يتعلق بها الركاب مقابل مبالغ مالية للوصول إلى أعمالهم، بينما تسعى إدارة النقل إلى ترخيص «الحناتير» من جديد في القرن الحادي والعشرين: «علف الحمار أو الحصان أرخص من الوقود، وهو على الأقل متوفر»، يقول سائق «حنتور» يعمل كـ«تكسي»، ويتندر أثناء حديثه: «سنضع له فانوساً ونمرة، وندفع ضريبة رفاهية».
ولشهر رمضان قصة أخرى، يقول من تحدثنا معهم: «مو فارقة، نحنا صايمين صايمين» في ردّهم على سؤالنا إن كان ما يزال المشهد الرمضاني كما السابق في المدينة. يقولون إن الأمر لم يتغير، فمعظم سكان المدينة يحصلون على وجبة واحدة يومياً، ورمضان جعل الأمر أكثر شرعية أمام حرج الآباء من تلبية متطلبات أبنائهم.
المطاعم مفتوحة، ومحلات الحلويات، السوس والتمر الهندي، بائعو المعروك، كل ذلك متوافر، ينقصه الزبائن فقط. تقول واحدة من المدرسات اللواتي تصفن حالتهن بـ«الوسط مادياً» إن ثمن قطعة غزل البنات أكثر من مرتب يوم عملها في التدريس، إذ وصل سعر القطعة الواحدة إلى ألفين وخمسمائة ليرة سورية، أما اللحم فيزيد عن عشرين ألف ليرة، وطبق من السلطة يكلف العائلة نحو خمسة آلاف.
«بدل التدفئة ضو»
تطول قائمة المشاهد اليومية التي تُلخّص ما وصلت إليه المدينة، إلا أن الكهرباء مثال حي عن الأوضاع في مدينة مُعاقَبة. تعيش حلب تقنيناً كبيراً للكهرباء، لم تُفلح معه جميع الوعود التي تُصدرها وفود المسؤولين إلى المدينة. ولا يشبه تقنين الكهرباء في حلب غيره في بقية مدن البلد الرئيسية، لكن ربما يكون الحال مماثلاً في بعض أرياف البلد، إذ تتجاوز ساعات التقنين في المدينة عشرين ساعة يومياً، وتختلف بين حي وآخر، حتى أنها تصل إلى يوم كامل في بعض الأحياء الشرقية من المدينة، بينما تأتي متقطعة في كثير من الأحياء الغربية.
خلال حديث على الواتسآب مع سيدة تعيش في حي الحمدانية، ينقطع الاتصال مرات عديدة في مكالمة لا تتجاوز ثلث ساعة، وفي كل مرة يعود الصوت تقول إن الكهرباء عادت، قُطعت، عادت، بشكل متتابع خلال الساعة ونصف المخصصة كل نصف يوم لأهالي الحي. تُخبرنا السيدة أن أكثر مدة متصلة ترى فيها الكهرباء مؤخراً كانت لساعة كاملة. كان ذلك إنجازاً. أما حصص المازوت المدعوم المخصَّص لأهالي المدينة بواقع مئتي لتر للعائلة الواحدة، فهي لم تُسلَّم لنحو 65% من الحلبيين هذا العام، وذلك وفق صفحات موالية للنظام على فيسبوك، كما أن أكثر من نصف سكان المدينة لم يحصلوا عليه لسنتين متتاليتين. والذريعة في ذلك تزويد أصحاب المولدات الكهربائية بالمازوت اللازم للكهرباء من حصة السكان.
تقول السيدة، وآخرون تحدثنا معهم في مناطق مختلفة، إنهم يقبلون بالضوء بديلاً عن التدفئة، ولكن إذا تمت مراعاة ظروفهم في ثمنها، إذ يبلغ متوسط ثمن الأمبير الواحد في مختلف الأحياء نحو ثمانية وعشرين ألف ليرة شهرياً للحصول على الضوء فقط، ولمدة خمس ساعات يومياً فقط.
يسيطر على قطاع الأمبيرات أشخاص ينتمون أو يتعاونون مع الشبيحة. يقول من تحدثنا معهم إن هؤلاء يرفعون الأسعار كيفما يريدون، إلى أعلى ممّا حدّدته «الدولة» للأمبير الواحد، ويرمون شريطك من الكهرباء بعيداً إن راجعتهم، هذا إن لم تنل نصيبك من السباب والشتم، دون أن يكون هناك جهة للشكوى سوى على صفحات فيسبوك التي تمتلئ بالأدعية عليهم بعدم التوفيق.
يتحدث الجميع عن أنها لعبة مرسومة بين المسؤولين عن الكهرباء والمتنفذين في المدينة من الشبيحة، إذ يزيدون ساعات التقنين ويُجبرون الأهالي على دفع ثمن الأمبيرات لتأمين موارد دخْل للشبيحة الذين سرقوا أحياء المدينة، وبعد أن انقطعت أهم مصادر نهبهم بقرار إزالة الحواجز، لم يجدوا وسيلة أخرى سوى التحكم بالخدمات العامة للحصول على المال.
نعمة النسيان في المدينة
لا يملك الحلبيون سوى النسيان، فالمدينة الحاضرة في خطاب النظام كدليل على الانتصار تعيش أسوأ أيام احتلالها، إذ تتقاسم السلطةَ فيها قوات تابعة للشبيحة المدعومين إيرانياً أو روسياً، يتقاتلون فيما بينهم على السيطرة والنفوذ والإتاوات، في حين تغيب أي جهة مسؤولة ويُترَك سكّان المدينة وحدهم لدفع الثمن.
تسيطر على معظم الأحياء الشرقية ميليشيات آل بري، الحاكم الفعلي، بينما يخضع القسم المتبقي للواء القدس الذي انتقل من حضن الدعم الإيراني إلى الروسي منذ 2019، ليُنهي بالتعاون مع آل بري سيطرة لواء «المدافعين عن حلب» في الأحياء الشرقية. اللواء الذي تشكل في العام 2017 بدعم إيراني بقيت له حصته في ريف حلب الجنوبي، وفي أجزاء من مربع المدينة، وفي ريف حلب الشمالي بالشراكة مع حزب الله اللبناني وميليشيا النجباء العراقية ولواء الباقر وغيرهم. كذلك تنشر بعض هذه الميليشيات المذهب الشيعي في مناطق نفوذها، وتختلف أيضاً فيما بينها ضمن مذاهب أو جماعات متعددة.
لكل حي من أحياء المدينة سادته وحاكموه، يتحكمون في موارده الاقتصادية ويفرضون الإتاوات على المحال التجارية والبسطات والسيارات العامة والخاصة، لتغدو السلطة العليا لأسماء لا تتبع لحكومة النظام، مثل الحاج محسن، قائد المدافعين عن حلب، الذي قيل إنه استقال من منصبه منذ أسابيع وتم اعتقاله، ومحمد السعيد قائد لواء القدس، وكنان أبو الحسن القائد العام لميليشيا آل بري، إضافة إلى أسماء تقاسمت قطاعات وأحياء حلب الشرقية مثل حسن عبد الملك بري قائد قطاع باب الحديد وحلب القديمة، وأبو معتز الخضر قائد قطاع الصالحين والفردوس، وأبو المجد زريق قائد قطاع الصاخور. أما في أحياء حلب الغربية، فتوجد مكاتب تجنيد للحلبيين، تتبع للمدافعين عن حلب ضمن ما يعرف بـ«كتائب الإمام علي»، التي يتزعمها أشخاص قادمون من العراق ويتبعون للحرس الثوري الإيراني.
بوجود كل أولئك القادة والميليشيات، يغدو الوجود الرسمي شكلياً، هذا دون أن ننسى التجار الجدد الذين يسيطرون على مفاصل هامة بالشراكة مع هذه الميليشيات مثل عائلة القاطرجي على سبيل المثال، التي تضع يدها على أهم قطاعات المدينة الخدمية كالوقود والقمح والبناء، وتحصل عبر مناقصات صورية ومبالغ زهيدة على معظم الصفقات المطروحة من قبل الحكومة.
«إذا ما نسينا رح نطقّ»، يقول من تحدثنا معهم من السكان وهم يستعيدون شكل المدينة القديم في ذاكرتهم بعد أن غابت معظم سماتها، حتى الشكلية منها. يروي أولئك أن مشهد الفتيات والنساء والأطفال المتسولين في المدينة بات مألوفاً، والحساسية الدينية التي كانت جزءاً من حياة الحلبيين، سواء في اللباس أو في الزكاة التي كانت توزَّع من قبل التجار غابت بشكل كبير. أئمة المساجد بات خطابهم كلّه موجَّهاً بشكل كامل، إذ يحاولون جميعاً إثبات الولاء للسلطة، وأصبحوا «محلِّلين سياسيين» يتحدثون عن المؤامرة الكونية والصمود والتحدي والوقوف إلى جانب الدولة ومحاربة الإرهاب. يخبرنا رجل مُسِنّ من المدينة أنه اعتزل المساجد، يقول إن شيئين لم يعد يحترمهما في هذه المدينة: «الذقون والشبيحة».
مشهدان أخيران
يلتزم الحلبيون بعدم نطق اسم «الدولار» في حديثهم، رغم أن القرار الذي صدر بهذا الخصوص عفا عليه الزمن في جميع المحافظات الأخرى، وعاد الاسم للتداول حتى على القنوات الإعلامية الرسمية. يُطلِق عليه الأهالي أسماء أخرى مثل «الشوئسمو» و«المشَحْوَر» و«المغضوب» و«المعدوم». يُرفقون هذه الأسماء على صفحات فيسبوك بمناشدة بشار الأسد إنصاف «المدينة المعاقبة»، بينما تحضر هذه العبارة بكثرة في تعليقاتهم مؤخراً: «كما عودونا: لأهالي حلب وعود بدون تنفيذ، وتنظير بدون رحمة، ورمضان كريم».
في المشهد الأخير، فيديو انتشر مؤخراً لامرأة بملابس داخلية تسير في أحد أحياء المدينة، قيلَ إنها فقدت عقلها وسارت تبحث عمّا يسد الرمق. أكدت وسائل إعلام محلية وصفحات الْتقتْ بعض من يعرفونها أنها لم تفقد عقلها، وأنها قد تكون «مكتئبة» أو «تحت تأثير المخدر». تطلب سيدة في الفيديو المتداول تصويرها وإرسالها إلى «الحكومة» لتعرف الحال الذي وصل إليه سكان المدينة. ليس المشهد مألوفاً. لم تحصل السيدة على ما ينبغي من تعاطف، وكل ما حصلت عليه عدسات الموبايل تصوّرها، دون أن «يستر عريها أحد» في المدينة التي باتت عارية هي الأخرى من كل شيء: تُرى هل نقوم بتصوير المدينة، وإرسال صورها إلى الحكومة أيضاً؟
المصدر: الجمهورية. نت