الطبلُ قوميٌّ والعصا سوريّة

عبير نصر

باسم الشعارات الرنّانة، مُزّقت أوطانٌ، وسُلبت كياناتٌ، وتشتّت أقوامٌ. وفي وقتٍ مضى كان ثمّة أمة سورية، حبُّ الوطن فيها كان قيمةً أخلاقيةً وإنسانيةً وفكرية، ولم يكن وعاءً أيديولوجياً يطفح بالشعاراتِ الديماغوجية الرخيصة التي غدتْ أهمَّ أساليب بروباغندا “الأسدين” في الهيمنة النفسية على جموع الشعب السوري. ومن دون شكّ، وُلدتِ الشعاراتُ الكبرى على يدِ مفكرين سياسيين، وعندما وقعت في قبضة المغامرين العسكريين، غدا الوطنُ هزيلاً محكوماً بسرديةٍ قوميةٍ مُبهرة، اعتاش عليها النظام السوري طوال فترة حكمه، وتحوّلت، وفق مقتضيات المراحل وتطوراتها، من التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي، إلى المقاومة والممانعة، إلى الصمود والتصدي، وعبر آليةٍ ممنهجة من الضخّ اليومي المكثف، أغرقت تلك الشعارات البلاد، وزُرعت على جدران المدن والقرى، وفي برامج التلفزيون والإذاعة والصحف، وتعشّقتِ الهتافات الصباحية والمسائية في المدارس، وقصائد الشعراء وأغاني المطربين.
وقد ترك غياب جمال عبد الناصر فراغاً هائلاً في ريادةِ القومية العربية، ما أفسح المجالَ أمام الأسد الأب كي يلعب دوراً قيادياً لافتاً، عبر تحريك خيوط الصراع العربي – الإسرائيلي، والذي كان الشحنةَ التي استقى منها وقود الخديعة الكبرى، لجماهير عربية مُورست عليها أكبر عملية تضليل في التاريخ. وحزب البعث الذي كان له غايات وأهداف تتناقض مع الأحزاب الأخرى التي احتلت الساحة السورية وضع تصوراً تخيلياً لمفهوم القومية العربية، شكلا من أشكال الهروب من المستحقات الوطنية. لذا كان لا بدّ للبؤس القومي أنْ يتسعَ داخل سورية، ليغدو محلياً ذليلاً، إذ كان هناك خلط متعمّد، بين الثقافة الوطنية المفترض أن تكون الجانب الرئيس في حياة السوريين كافة، والمفهوم السلطوي لها من النظام الحاكم الذي طمس الهويّة السورية بالتركيز على إعادة إنتاج المزايا الجذّابة للقضايا العربية الساخنة، لنيل الشرعية والمقبولية. وكلّ أطروحاته الأيديولوجية كانت واجهةً لاستقطاب الجماهير، ووسيلةً ثورية للوصول إلى السلطة، من منطق التأصيل والاستمرارية والشمولية، وقد وسمتْ هذه المفارقة التاريخية والوطنية المفجعة كلّ تاريخ سورية بعد الاستقلال، وكانت وما زالت عاملاً جوهرياً في تمزيق الكيان السوري، وسبباً رئيسياً وراء كلّ ما عصف بالسوريين من محن وكوارث، حفرت أخاديد عميقة في الوطن والدولة والمجتمع.
وبدأت الكارثةُ الوطنية عندما أطلقَ النظامُ السوري العنانَ للمزايدات القومية والعربية، إذ بدت تظهر تعابير جديدة على القاموس السوري السياسي، والاجتماعي، والفكريّ، فتحوّل من تبنّي شعارات البعث الممجوجة التي باتت أشبه بمنتجاتٍ رديئة النوعية، بعدما بدأت تفقد بريقها، وتثير السخرية من حجم التناقضات بين الشعارات والواقع، إلى أكذوبة المقاومة والممانعة، والتي نسفها مع بدايات الثورة السورية رامي مخلوف، أحد أهم أركان الاقتصاد السوري، بقوله إن “أمن إسرائيل من أمن النظام”، لتؤكد على ذلك المتحدّثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بقولها: “بشار الأسد كان أفضل صديقٍ لواشنطن ولندن، وليس موسكو”.
وكان قيامُ دولة إسرائيل ذريعة مناسبة تبنّاها النظام السوري الذي استند في تثبيت عرشه المقدّس إلى حتمية ابتزاز القضايا القومية وإعادة تدويرها، وأيّ مبرّرٍ أوجه من خسارة فلسطين كي يُعطى حزبُ البعث، (القومي الراديكالي)، الحقَّ القوي للانقلاب على الحكم الوطني، وعلى مشروع الديمقراطية المشتهاة؟ وأيّ قضيةٍ أكثر أهمية من تحرير فلسطين التي تعلو أيّ أولوية أخرى، حتّى لو كانت لقمة السوريين! وبناء على ذلك، ستغدو أيُّ دعوة إلى الإصلاح والتنمية الاقتصادية جبانةً وغير منطقية، والحجّة حاضرة دائماً: “ما نفع المشاريع إذا سقطت تحت الاحتلال. (!) في وقتٍ كانت الورقة الوحيدة فيه، والتي ستحوّل حافظ الأسد إلى زعيمٍ تاريخي، هي استعادة الجولان التي لم تتحقّق قط، وعبر سني حكمه اتخذ شعار “سلام الشجعان” رمزاً عاطفياً برّاقاً لتسيّده المشهد العربي، بينما كُرّست البلاد لخدمة هذا الهدف، بوصفها وظيفة استراتيجية أكثر منها وطناً ومجتمعاً، فيما غدا السؤال عنها، اقتصاداً وسياسةً وفكراً، يرقى إلى تطاولٍ مثير للريبة، واعتداء على التفاني الذي يبديه الزعيم المعبود. وحقيقةً هناك شكوك كثيرة فيما إذا كان النظام السوري يريد فعلاً استعادة الجولان مقابل تخليه عن لبنان الذي لم يثبّت أقدامه فيه إلا بفضل النزاع مع إسرائيل. وباسترداد الجولان وقيامِ سلامٍ كامل، تتحوّل سورية من كونها دولة استثنائية، إلى دولة طبيعية تنكفئ إلى داخل حدودها لتعالج مشكلاتها الداخلية المتصاعدة، وهو يدرك جيداً أنّ اعتناقه سياساتٍ سلميةً أكثر كلفة بكثير من انخراطه في الحرب.
ولم يتوقف الأمر هنا، فعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية اتخذ النظام السوري، في البداية، موقفاً أبوياً متعالياً، حيث طالب “الأخوة” بألاّ يسفك بعضهم دماء بعض، فلا يفيدوا بذلك إلا إسرائيل، ذلك أنه حريصٌ على سلامة المقاومة الفلسطينية التي سلّحها، قدر حرصه على تعايش اللبنانيين واستقرارهم، حتّى بدأت الأمورُ تتجه نحو انتصارٍ “فلسطيني – يساري”. عندها جاء ذهولُ الشارع السوري من الدور “اللا قومي” الذي لعبته القوات السورية في لبنان، بحربها الشرسة التي خاضتها ضد المقاومة الفلسطينية، ليكشف ادّعاءات النظام عن توجهاته القومية، في وقتٍ رُسمت فيه الخطوط الحمراء للتدخل السوري في لبنان، وفق ما حدّدته إسرائيل، “أن يبقى التدخل محدوداً بعدد الجنود ونوع السلاح، وأن يمتنعَ السوريون عن استخدام سلاح الجو، وصواريخ سام”. وفي ليل 31 مايو/ أيار من عام 1976، بدأت سورية تدخلها العسكري الواسع في لبنان، لتنقلبَ المعادلةُ جذريا، وبات الجيشُ السوري يسيطر على مساحة 66%، مقابل 18% للقوى الوطنية اليسارية اللبنانية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، في حين استعادت القوى المسيحية اليمينية المبادرة، وشُدّد الحصار على مخيم تل الزعتر، لتُرتكب أول مجزرةٍ عربية بحقّ الفلسطينيين، وقد علّق رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، آنذاك بقوله “إن إسرائيل لن تزعجَ الجيش السوري وهو يقتل إرهابيي عرفات”، ولاحقاً عندما حاول الزعيمُ الفلسطيني العودةَ إلى لبنان عبر بيئته الشعبية الحاضنة في طرابلس، تدخلت القوات السورية وتولّت مهمة إخراجه منها عبر حربٍ شرسةٍ عام 1983، تشبه إلى حدّ كبير ما حصل في حماة قبل عام.
وما زالت الشعاراتُ الرنّانة سلاحاً فتاكاً بيد مدّعِي الوطنيّة، لملاحقة المعارضين لعروشهم المستبدّة، والتنكيل بهم، في وقتٍ لم يعد فيه ممكناً، على الإطلاق، أن تُحكم المجتمعات من منظور التملّق القومي وتشويه الحقائق، أو التعاطي اللفظي مع السطوة الثقيلة للقضايا العربية الكبرى، فالوطنية الحقيقية لا تعني أن تكتبَ الخطابات المسيلة للدموع، أو تنظم الشعر في تمجيدها، بل غدت مرادفاً طبيعياً للديمقراطية والحرّيات المدنية، فما الفائدة في أن تصدعَ الأنظمةُ الحاكمة رؤوسنا بالتفاخر بحبّ الوطن، ومن ثم تقمع الشعوب، وتحاربها بلقمة عيشها، وتشرّدها. هذه اللعبة أصبحت مكشوفة ومفضوحة، لا بل بات السوريون يتهكمون على كلّ ما هو وطنيّ، لكثرة ما تُوجِرَ بهذه الشعارات وأسيء إليها..، وعلى الرغم من أنّ حزب البعث في سورية قرّر حلّ ما عُرف “بالقيادة القومية” وإلغاءها، إلا أنّ الأكذوبة القومية ما تزال تتوشّح ظلال حكمٍ استبدادي لم يكن يتطلع إلى أكثر من إخضاع السوري، الذي لم يعد يرى أمة واحدة، بل أمماً متفرّقة، ولا رسالة خالدة، بل سطوة أمنية متغوّلة داخل أقبيةِ العالم السفلي المرعب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى