لعل أكثر ما نحتاجه اليوم ونحن نقترب من ذكرى الجلاء في سورية الوطن، هو قراءة محايدة في تاريخ نشأة هذا الكيان السياسي. فبعد عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، تكون الخشية أكبر مع انهيار الدولة السورية، بعد أن تصدّعت أركانها بشدة خلال السنوات الماضية، حيث يسيطر الجوع والفقر والمرض، ويتفسخ الوضع الاجتماعي والقيمي، في مناطق عصابات الأسد. وفي مناطق المعارضة، يسيطر الدمار وتنتشر مخيمات اللجوء التي تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة، وتتحكّم فصائل مسلحة لا يبدو أنها تملك قرارها.
لا يمكن لأحد أن يرسم صورة واقعية أكثر قتامةً حول مستقبل بلدٍ تميز تاريخياً بأنه صانع حضارة، وانتهى به الأمر هكذا. فبالرغم من كوننا نعيش مننذ فترة في ظل إرتباط تاريخ سورية ونظامها السياسي بشخص الرئيس فحسب، إلا أن ذلك بحد ذاته فخ يجب عدم الركون إليه، لذلك صدحت الحناجر بهتاف “سورية لينا وماهي لبيت الأسد” لأن تفتيت الدولة لا يؤدي بالضرورة إلى التخلص من الإستبداد.
فمنذ الإستقلال كان الصراع على سورية في أشده تجسد في الإنقلاب العسكري الأول بتاريخ سورية بقياده حسني الزعيم، الذي عكس الصراع الغربي على خطوط إيصال النفط إلى شواطئ المتوسط، حيث كانت محاولة جر سورية إلى المحاور التي كانت تتشكل في حينه وأبرزها مشروع آيزنهاور المجسد لعزم أميركا على ملء الفراغ البريطاني والفرنسي في المنطقة، والذي كانت مرتكزاته تحيط بالكيان السوري، وصولاً إلى إنقلاب حافظ الأسد الذي يمثل تصفية الفكر التحرري الوطني المتطلع إلى إستقلالية وطنية كاملة.
وإن كنا نستغرب ما آلت إليه الأمور، عندما نعي قدرة السوريين، وهم الذين صاغوا عقدهم الإجتماعي الأول في نهاية القرن التاسع عشر قبل انهيار الدولة العثمانية، وبعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى ودخول الأمير فيصل إلى سورية تم إنشاء أول دستور لدولة مستقلة هي سورية الكبرى عن طريق “المؤتمر السوري” الذي شكل لجنة لصياغة الدستور ووضع مشروع دستور مؤلف من 147 مادة، تحت اسم” دستور المملكة السورية العربية” وطبق لمدة خمسة عشر يوماً فقط، بسبب تلاحق الأحداث التي بلغت ذروتها مع إنذار غورو، واحتلال الفرنسيين دمشق. وتلا ذلك محاولة في ظل حكومة الإنتداب من خلال جمعية تأسيسية، إلا أن حكومة الإنتداب عطلت إقرار الدستور. حتى عام 1943 بعد مباحثات بين ممثل فرنسا الحرة في سورية والحكومة السورية. وكان هذا دستور الإستقلال الذي بقي حتى إنقلاب حسني الزعيم الذي قام بتعطيل الدستور وإجراء استفتاء شعبي لتنصيب رئيس الجمهورية، وتخويله وضع دستور جديد، لتتالى بعد ذلك عمليات الإنقلابات العسكرية ووضع دساتير جديدة.
وإن كانت الحركة السياسية في بداية عهد الإستقلال نشطة إلى درجة كبيرة بين اليمين واليسار والأحزاب المحافظة والراديكالية، إلا أن هذه الحياة السياسية قوضت بشكل كامل بعد إنقلاب الأسد بحيث أننا عندما وصلنا إلى بداية الثورة كانت عملية تجريف الحياة السياسية قد بلغت مرحلة من التصحر بإنعدام أحزاب لاتمتلك أي قاعدة شعبية تؤهلها حتى للمساهمة في الحراك الذي كان في تصاعد مطرد. لذلك فإن الأحزاب المعارضة التقليدية لم تفكر في هزيمة نظام الأسد، ولا حتى أن تؤثر في سلوكه، بل استطاع هذا النظام شل حركتها وتعطيل أدائها من خلال التنكيل بأعضائها تعذيباً وسجناً طويلاً. مما أوقعها في عجز، ولم تتمكن من أن تجعل في برامجها وشعاراتها السياسية مايستمد مضامينها من حياة الناس ونشاطهم الاجتماعي، بل ظلت في أغلب الأحيان تدفع ثمن معارضتها للسلطة من دون أن تتمكن من تقديم البدائل الأفضل.
لقد تميزت الدولة بعد إنقلاب الأسد بتغييب الحياة السياسية بالكامل من خلال تجسيد الاستبداد وقوننته، وهو ما تمثل في استحداث المادة (8) من الدستور، وترسيخ سيادة الحزب وتغيب المادة الثانية في الدستور التي تنص على سيادة الشعب، كما تتيح للحزب أن يجعل الدولة والمجتمع في خدمته وليس العكس؛ ما أسس لإشكالية الولاء هل هو للدولة أم للبعث؟ كما أنه أسس من جهة أخرى لمصطلح “دولة البعث” ولاحقاً “سورية الأسد”. وتعمقت قوننت الإستبداد من خلال مفهوم الجيش العقائدي والأجهزة الأمنية العقائدية، فهذه مسؤولة عن “حماية أهداف الثورة” مما يسمح للجيش والأجهزة الأمنية بالقضاء على أي تحرك سياسي يشكل خطراً على النظام تحت ذريعة حماية أهداف الثورة.
وإن كان الأسد الابن قد قام بإعادة تشكيل دستور الدولة بعد الثورة محاولاً تلميع وحذف بعض المواد التي كانت تقونن الإستبداد وتجعل الدولة بدستورها مكرسة لسلطة الحزب والأجهزة الأمنية، فإن أبرز ما ميز شكل الدولة أنها أصبحت تجسد سلطة الأسد الابن حصراً.
فإن كان لا وجود للوطن من دون المواطن، والعكس صحيح. ولا وجود لهما من دون الدولة السياسية. والمواطنة تعني وجود علاقةٍ قانونيةٍ حقوقيةٍ تربط المواطن بالدولة، ما يفترض بداهةً وجود “عقد إجتماعي حقيقي”، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الدول القائمة بالفعل. فلا يمكن السير في طريق بناء سورية المستقبل من دون إعادة هيكلة “الدولة السورية القائمة بالفعل” وذلك على أسس إنسانية ووطنية وعقلانية وديمقراطية.
إنطلاقاً من ذلك فإن الوضع يتطلّب من كل السوريين المؤمنين باستعادة وطنهم، على اختلاف مواقفهم السياسية ومذاهبهم الفكرية، الارتقاء الى مستوى الكارثة التي حلت بوطنهم، والالتفات إلى تسخير كل الإمكانات للبحث حول السبيل إلى الخروج من هذه الكارثة. وذلك من خلال تحالف حقيقي بين قوى لها رصيد شعبي، وفق محددات وطنية واضحة، فالنخب المجتمعية السورية تمتلك وعياً كبيراً بمسألة بناء الدولة العصرية الحديثة. والآن وبعد وصول سورية ككيان إلى مشارف الإنهيار، فالواجب حدوثه، على الأقل، في المجتمعات السورية الخارجة عن سلطة عصابات الأسد، هو أن تبدأ مرحلة جديدة يكون فيها العقد الإجتماعي حجر زاوية يعيد الثقة المتبادلة بين الحواضن المحلية من جهة والكيانات العسكرية والسياسية التي مثلتها على مدار السنوات الماضية.
المصدر: اشراق