كان للثورة التكنولوجية في مجال الإنترنت والهواتف المحمولة والتطبيقات الذكية، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، أثر كبير في انطلاق مسيرة التغيير في الوطن العربي، ابتداء من تونس، فقد وفرت هذه الوسائل بيئة أكثر أمناً من الواقع، وكسرت هيمنة الأنظمة على توجهات الناس، والتحكم بآرائهم. وفيما بعد، مع انتشار حركة التغيير وتوسّعها، ظهر شكل جديد من الإعلام، اصطلح على تسميته الإعلام البديل أو المستقل، في محاولة لتمييزه وتمايزه عن إعلام الأنظمة، إلى جانب منصّات أخرى، أعلنت عن تبنّيها وانحيازها إلى قيم التغيير الديمقراطي، ما جعل من الإعلام وسيلة التغيير وأداة في الصراع بين القوى المحلية والقوى الدولية.
وفي تخصيص الحديث عن دور الإعلام (الثوري والمعارض) في الثورة السورية، يمكن القول إن خطاب المظلومية هو الذي سيطر على مجمل خطاب تلك المنصات، وربما مؤسسات المعارضة ورموزها، هو الملهم لهذه المنصات، بتبني هذا الشكل من الخطاب، عبر بياناتها وتصريحاتها منذ بداية الثورة، وما زال كثير منهم يكرّرها.
لقد أغرق الإعلام المعارض والثوري شاشاته ومنصاته بفيضٍ من الضيوف والمواد التي ترسخ خطاب المظلومية، اعتقاداً منه أنها الاستراتيجية الأنجح لإدانة النظام في سورية، وتعريته أمام حاضنته وأمام المجتمع الدولي. والحقيقة أن هذه الاستراتيجية أحدثت آثاراً عكسية على قضية السوريين، فقد نجح النظام، وفق خطة محكمة، في رفع عتبة الألم إلى الحد الذي لم تعد حاضنته، وكذلك الرأي العام الدولي، يشعران به، لا بل دفعهم إلى استساغة رؤية الدماء والدمار والتسليم بالإجرام الذي يقترفه وكأنه أمر اعتيادي لا جديد فيه، لا بل أيضاً تحميل المقتول ذنب مقتله، تماماً كما روّج الكيان الصهيوني جرائمه بحق الشعب الفلسطيني. وأخذنا نسمع من يلوم الضحية ويصف مقاومة الاحتلال والظلم بأنه انتحار، لا بل جنون، في ظل عدم التكافؤ في القوة والسلاح بين الطرفين.
ويبدو أن تبني الإعلام السوري المعارض هذا الخطاب كان الملجأ من الاستحقاقات التي وجد القائمون عليه، والعاملون فيه، أنفسهم في مواجهتها، من دون أن يكون لديهم تقدير دقيق لأهمية هذا الحراك السوري، محلياً وإقليمياً ودولياً، وفي غياب شبه تام لأية استراتيجية أخرى للتعاطي مع هذا الزخم الإخباري والأحداث الكبيرة والسريعة التي تجرى. كذلك وجدوا أنفسهم أمام واقع ميداني صحافي مليء بصور القتل والتعذيب والتدمير، لم يستطيعوا توظيفها بشكل ناجع، بل لم يتدخلوا فيها وتركوها، في أحيان كثيرة، مادّة عذراء، لتعرض على الشاشة كما هي، وتتبع عرضها باستضافة ضيوف يكرّرون، في مداخلاتهم، حديثاً تطغى عليه الإنشائية والانفعالية إلى درجة يشعر معها المشاهد بأنه أمام حفلة نواح، أتعبت فئة وسئمت منها فئة أخرى، اختلط فيها دور المسؤول والمحلل، فتجد الأول يحلل، بينما يفترض به إعطاء معلومات، كما تجد الثاني يسرد معلومات سرية، لا ندري كيف حصل عليها وما سندها، ويصدقه المشاهد ويسلم بحديثه على أنه حقيقة.
أحد أسباب هذا التخبط افتقار غالبية الكوادر العاملة في الإعلام السوري المعارض إلى المنهجية والخبرة، مروراً بالتدريب والتطوير. ولا تطلق المقالة هنا الأحكام، بل تصف الواقع، فمع اندلاع الثورة السورية انكفأ غالبية الصحافيين والإعلاميين، أصحاب الكفاءة والخبرة، عن الانحياز إلى الثورة ونقل مجريات أحداثها، ولهم أسبابهم الموجبة في هذا الانكفاء الذي أحدث فراغاً كبيراً، وخصوصاً في تغطية الجانب الميداني لهذا الحراك الشعبي الواسع، وإظهاره للعالم. ما اضطر فئة من الشباب إلى ملء هذا الفراغ، من دون أن يكون لديهم أدنى درجات التأهيل العلمي والعملي الصحافي. ومع حاجة الإعلام العربي والدولي الماسّة لأية صور ومعلومات من الداخل السوري، تم تلقف هؤلاء الشباب (اصطلح على تسميتهم فيما بعد بالناشطين)، وعرض موادهم من دون الالتزام بمعايير الجودة والحرفية والمهنية، لأنه لم يكن هناك بديل، والحدث لا ينتظر. الحقيقة أن هؤلاء الناشطين الصحافيين كان لهم أثر كبير جداً في إظهار حقيقة ما يجري إلى الخارج. وقد كان غالبيتهم فدائيين في نقل الواقع، من دون توفر حد أدنى من إجراءات السلامة، ما أدى إلى ارتقاء عدد كبير منهم شهداء الكلمة والحقيقة. وقد شكل ظهورهم، في تلك اللحظة التاريخية، حلاً إسعافياً لوضع طارئ، كان لا بد من التعامل معه، بغض النظر عن النتائج المترتبة عليه. ولكن فيما بعد، عندما انتقل هؤلاء إلى العمل في المؤسسات والمنصّات التي بدأت تتأسّس، كان لزاماً أن يتم تأهيلهم علمياً وعملياً بشكلٍ يصقل الخبرات التي اكتسبوها في الميدان، ويملأ الفجوات المعرفية لديهم عن العمل الصحافي.
ولكن يبدو أن هذه المرحلة تم القفز عنها في منصّات عديدة، أو تم المرور بها سريعاً، لأسبابٍ كثيرة، ما انعكس سلباً على جودة المنتج الإعلامي، وعلى وضوح الرسالة الإعلامية. كما ساهم في ذلك غياب التخطيط الاستراتيجي، وليس اليومي التفصيلي، عن هذه المنصات. لا بل إن غالبية إدارات هذه المنصات لا تحتوي هياكلها على إدارة التخطيط، بل لا تؤمن بها، وتعتبرها ترفاً. ببساطةٍ، لأن أغلب أصحاب القرار في هذه الإدارات من النمط التقليدي في التفكير، وبعضهم متأثر بالمنهجية التي تُدار بها مؤسسات الأنظمة الإعلامية، إذ إن المهم العمل وفق مبدأ الأمان والسلامة، مع إغلاق باب الإبداع والتفكير خارج الصندوق، بحجج عدم المغامرة والنضج، وعدم تقبل المشاهد هذه الأفكار، من دون أن يكون هناك قياس علمي لتوجهات الجمهور. ويعدّ ذلك كله مؤشّراً على أنه ليس لدى هذه الإدارات تقييم دقيق لقدرات كوادرها وأدواتهم نحو تحقيق التغيير عبر المحتوى المعرفي والبصري، كما أنها تفتقر إلى رؤية واضحة ومحدّدة عن الأهداف التي تتناسب والقدرات البشرية والمالية والتقنية للمؤسسات التي تديرها، بما يخدم المبادئ والقيم المعلنة منها، فنجد خللا في مستوى الأهداف الموضوعة، بحيث إما أنها فوق القدرات الموجودة أو تحتها. وفي الحالة الأولى، تؤدّي النتائج إلى العجز واللاجدوى، وربما ينتج عنه إغلاق هذه المؤسسات، بداعي عدم تحقيق الأهداف المرجوة منها. وفي الثانية، تؤدّي إلى الشعور بالإحباط، كونها تملك قدرات ومؤهلات لتحقيق مستوى أعلى من الأهداف، ولكن غياب التقييم والتخطيط يحول دون ذلك. وبالتالي، تبنّي خطاب المظلومية الرائج والمعتمد من المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني هو الخيار الأسلم (بنظرهم)، لتكون جميع هذه الأطراف، في نهاية المطاف، صدى لصوت واحد، بينما يكون الإعلام أكثر تأثيراً كلما كان أكثر تنوّعاً وأدق تخطيطاً وأقرب إلى الناس.
المصدر: العربي الجديد