تكشف دعوات رسميين ومثقفين عرب إلى احتضان النظام السوري طيبة قلب مبالغا بها، تجاه نظامٍ ما زال يشتم في إعلامه، صباح مساء، العرب، برسمييهم ومثقفيهم ورموزهم ودولهم، ولا ينظر لهم إلا بوصفهم مغفّلين وخونة بالطبيعة والتربية الثقافية والأخلاق المنحطة.
والمشكلة مع نظام الأسد أنه لا يقبل منطق عفا الله عما مضى، مع أن كل أنماط الأخلاق وأشكال القوانين، المنحطّة والغريبة، لا يمكنها العفو عن جرائمه، بل يريد من العرب الاعتذار والاعتراف بأنهم مذنبون، والقدوم إليه راكعين، يمتدحونه على منصّاته الإعلامية، ويبدون الأسف على ما فعلته الشعوب العربية تجاهه.
يبرّر هؤلاء مواقفهم وانحيازاتهم لنظام الأسد بذريعة إنقاذ شعب سورية، وإخراجه من بؤس الأوضاع الاقتصادية، وإنقاذ سورية مما وصلت إليه. لكن ذلك ليس كل ما في الأمر، فأصوات كثيرة صادرة في العالم العربي تذهب إلى مديح النظام السوري ومرونته تجاه العملية السياسية، بل وادعاء تقديمه تنازلات عديدة من أجل حل المشكلة، وهي تنازلاتٌ لو جرى البحث عنها بالمجاهر لما أمكن رؤيتها، ثم إن المسألة لا تحتاج إلى تنجيم، فهناك معايير وافقت عليها روسيا، عرّابة النظام وراعيته، للقول إنه يتقدّم للحل السلمي، من نوع إخراج المعتقلين السياسيين، تأمين عودة آمنة للاجئين، ووقف مصادرة أملاك اللاجئين.
اللافت أن نظام الأسد، خلال السنوات السابقة، لم يكن مجرّد نظام ديكتاتوري، أو عصابة مجرمة وحسب، لنقل إن هناك مثقفين عربا كثيرين يحبّون هذا النوع من الأنظمة، طالما هو لا يعتقلهم ولا يغيبهم في سجونه، لكن هذا النظام تعمّد تحقير الشخصية العربية، كما أنه لم يكن مقاوماً كما يجري عنوة إلباسه هذا اللبوس، إذ على الدوام كان على استعداد لمصالحة إسرائيل، بل وشن حربٍ على كل من يرفض توجهاته تلك. وقد أكد الدبلوماسي الأميركي السابق، فريدريك هوف، أن الأسد كان، في عام 2011، مستعدّا لفرض عملية سلام بين لبنان وإسرائيل، بل وإجبار أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، على تفكيك حزب الله، عربونا يقدّمه الأسد لإسرائيل وأميركا لإثبات أنه شريك موثوق به.
بالعودة إلى خوف أولئك على مصير سورية ومستقبلها، تبريراً لدعوتهم إلى إعادة الأسد إلى الحضن العربي، ومنحه الأموال لبناء ما دمرته آلته العسكرية، هل يعتقد هؤلاء أن الأسد سينصف أكثر من 15 مليون مهجّر ونازح، وسيأمن هؤلاء للعيش تحت سلطة أجهزته، وهو الذي رفض تقديم أدنى تنازل، ولو على صعيد تطمين أهالي المختفين والمعتقلين عن مصير أبنائهم؟ وما هي الآلية التي سيتم اعتمادها لتوزيع أموال إعادة الإعمار على المتضرّرين السوريين؟ كيف يمكن التوصل إلى صيغة وسط وحقيقية لحل هذه المشكلات! أم أن المسألة مجرّد لفلفة حل يشرعن الأسد ويمحق السوريين؟
بالنسبة لهؤلاء، المبرّر الأهم اعتبارهم نظام الأسد كتلة متماسكة، بعكس الطرف الآخر الذي تجد به جبهة النصرة والجيش الحر و”داعش”. ومن السهل القول بوجود تنظيمات إرهابية في هذا المقلب، لكن أليس في المقلب الآخر، مرتزقة فاغنر، وزينبيون وفاطميون، كذلك أجهزة الأمن التي تفوق كل هؤلاء إجراماً، أليس لديهم ماهر الأسد المشهور بساديّته وإجرامه، أليس في الجيش والأجهزة الأمنية السورية قتله ومجرمون؟ في تقرير أصدرته أخيرا، أكدت اللجنة الخاصة بحقوق الإنسان في سورية، والتي أجرت تحقيقات مع آلاف السوريين، واستندت إلى أدلة ومعطيات كثيرة، أن جميع الأطراف في سورية ارتكبت جرائم حرب، لكن حصة النظام من هذه الجرائم 95%.
المدهش في الأمر، النبرة التي يجري فيها الحديث عن سورية ونظامها، من مثقفين، لم يؤيد جزء منهم نظام الأسد في البداية، وإن كانوا لم يؤيدوا الثورة عليه، هي نبرة اعتذارية، وفي الوقت نفسه، لا تعطي أهمية لأكثر من ثلثي الشعب السوري الذين دفعوا أثمانا باهظةً في حرب النظام عليهم، وهي أثمان وصل بعضها إلى حد دمار مستقبل فئاتٍ وشرائح كثيرة، ستناضل، في ظروفٍ سياسيةٍ طبيعية، وهو ما لن يحصل في زمن حكم الأسد، عقودا طويلة، حتى تسترد جزءاً من حياتها الطبيعية، يكفي أن نتذكّر أن خمسة ملايين طفل من بيئات معينة، خارج التعليم، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء تشوهت نفسياتهم جرّاء ما عاشوه من قصف وتنكيل وهروب، فضلاً عن ملايين الأسر التي تفكّكت أو أصبحت بدون معيل.
في كل الأحوال، ليست بريئة الدعوات المتكاثرة إلى إعادة احتضان الأسد، هي جزء من سياق الثورات المضادّة التي رأت في الخراب فرصةً للدعوة إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011، بذريعة عدم وجود خياراتٍ أخرى، فقد انتهت مرحلة تشويه الثورات. والآن يجري البناء على تلك المرحلة في المطالبة، بشكلٍ صريحٍ وعلني، بتبرئة القتلة من دماء الشعوب.
بالتأكيد، جميعنا يبحث عن حلول واقعية ومنطقية، ولا أحد يرغب في استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وهي الأوضاع التي فرضتها الأنظمة بدائل عن خضوع الناس لها، لكن هل من الواقعية تسليم رقاب الناس لقاتلها، وهل من الواقعية احتضان مجرم حرب بذريعة أنه يمثل جبهة متماسكة، في حين أن جيوشا أجنبية تحتله، بات يشتغل عندها في تأمين المشاريع الجيوسياسية لهذه الأطراف، ولماذا لا تشمل طيبة قلب العرب ملايين السوريين المكلومين؟
المصدر: العربي الجديد