(مثل حجر في نهر)

إبراهيم صموئيل

لم تدم الحادثة أكثر من خمس دقائق، أو عشر دقائق على أطول تقدير…. غير أن وقوعها عند الظهيرة، نحو الثانية والنصف، وقت خروج الموظفين، وفي غمرة ازدحام الناس المتبضعين أو اللاهين أو الباحثين عن البضائع، ووسط شارع رئيسي عام في مدينة رئيسية هي الأخرى، جعلها علامة بارزة أشبه بالوشم على الوجه.

هو شارع… لكنك ما إن تنعطف إليه حتى تخاله نهراً: ناس يتدفقون في لجّة ناس. من الجهات الأربع يتوافدون جداول، مثل أرتل النمل، ليصبوا على ضفتيه، أو يفيضوا إلى مجراه، مختلطين مع السيارات الصغيرة والعربات والشاحنات. يتجمعون، متزاحمين، في بداية ممر المشاة، ما إن يأذن الشرطي حتى يندفعوا وهم يقطعون الشارع كتلة تتلاطم بكتلة تندفع باتجاه معاكس، تتداخلان لحظة، وفي لحظة تنفكّان باتجاهين متغايرين… تنسكبان على رصيفي الشارع المتقابلين، ثم تنفرطان إلى أياد تحمل خبزاً وأكياساً وخضاراً وعلباً وزيتوناً، وأياد تطوح فارغة، وأخرى تتهدّل، وأخرى تهرش رؤوساً. أرجل تدق الأرض، وأرجل تمسحها، وأخرى تتقافز عليها. صدور تنتفخ وتضمر وهي تشهق هموماً وتزفر هموماً. غابة من وجوه. وجوه ممسوحة بالكآبة، ووجوه مثلومة بالتوهان، وأخرى وأخرى تنزّ فزعاً مفزعاً. ناس يختلطون بناس. يتشعّبون ويتفرّعون ثم – سريعاً كما وفدوا الشارع – يتلاشون في منعطف، أو حارة، أو دكان، أو بيت، خلف شجرة، أو داخل خربة. ينسابون متلاحقين كما في مجرى نهر.

وكما لو سقط حجر ضخم في مجرى نهر، انغرزت سيارة رمادية في مطلع الشارع، وسط ممر المشاة تماماً، عند نهاية خطين كحليين رسمتهما العجلات باندفاعها المفرمل الذي أطلق زعيقاً رفيعاً، جارحاً، مثل صيحة امرأة، فاستيقظ الناس من سدرهم، وراحوا ينساحون دوائر حول السيارة التي فُتحت، بومضة برق، أبوابها الأربعة الجانبية والخامس الخلفي، وانقذف منها رجال هائجون، في حين دجَّت على الأرض، أمام السيارة، رزمة أوراق تخلص منها شاب، وانطلق يعدو محاولاً اختراق دوائر الناس التي تشكّلت بفعل المباغتة ربما، أو دافع الفضول، أو إثر زعيق العجلات الذي علا، رغم الضجيج، على الضجيج.

انبلجت، في طرفة عين، لحظة تباعد الناس، ثغرة في محيط دوائرهم، انقذف من خللها الشاب المذعور، وتقاذف خلفه رجال السيارة الملهوجون، فأدركه أحدهم وشدّه. نتر الشاب جسده فأفلت، وكاد يدركه آخر لولا أن التفّ، مثل شهاب، خلف دوائر الناس المشدوهين، وانخرط متعرجاً بين صفوفهم يلحقه رجل يهدد بسلاح ويطلق أوامر: »أمسكوه… أمسكوا المجرم.. أمسكوه«.. ويلتفّ، من الجهة المقابلة داخل دوائر الناس، الرجال الآخرون لملاقاته.

آن أطبق رجال السيارة على الشاب، راح يصرخ كمن يفضح سراً: »كذابون… أمسكوهم عني… كذابون.. أمسكوهم عنكم« فيما الشفاه السفلى للناس، الذين انفرطت دوائرهم، تنقلب متحيّرة، وعيونهم تجحظ بحياد، أو تغور بدعة وشيء من الحزن، وفيما التوت أعناق بعضهم مستغربة بين أكتاف متقوسة تسأل، واستقرت حبة سبحة بين أصبعين هامدين، ولاذت امرأة برجل، وتحوقل شيخ، وبسملت عجوز.

ولحظة شرعت تنهال فيها قبضات رجال السيارة وأرجلهم على مساحة جسد الشاب المنتفض مثل دجاجة لم تذبح جيداً، وقبل أن يرفعوه ليحشوه من الباب الخلفي ويحشوا معه صياحه المخنوق: »يا ناس… أمسكوهم عنكم.. يا ناس… أمسكوهم عنكم« وقبل أن يلجوا ويصفقوا الأبواب خلفهم وتقلع السيارة تنهب الشارع… أخذت الأوراق تتطاير وتتبعثر تحت وخلف أرجل الناس. الأرجل التي تفرّقت وهي تمسح الأرض، أو تجمّعت كتلة تتلاطم بكتلة في ممر المشاة أول الشارع الرئيسي المكتظ بناس يتدفقون في لجة ناس. يتشعّبون ويتفرّعون، ثم – سريعاً كما وفدوا – يتلاشون في منعطف، أو حارة، أو بيت، خلف شجرة، أو داخل خربة… ينسابون متلاحقين كما في مجرى نهر..

المصدر: مجموعة النحنحات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى