عام 2012، أي قبل تسع سنوات، وكان قد مر على الثورة السورية عام واحد فقط، كتب السياسي والمفكر الكبير ميشيل كيلو، مقالاً شخّص فيه الواقع حتى تلك اللحظة، وحدد المخاطر التي تتهدد السوريين ومستقبلهم، واقترح الأفكار التي يمكن العمل بها من أجل تجنب سقوط الثورة وانتصار النظام.
ما أعادني إلى هذا المقال رسالة وجهها الأستاذ كيلو يوم الأربعاء إلى السوريين من على سرير العناية المشددة في المشفى الذي يتعالج به من إصابته بفيروس كورونا، ولعله أراد هذه الرسالة أن تكون بمنزلة “وصية” بينما لا نريدها إلا حلقة من سلسلة أفكار نأمل أن يكتب الله لصاحبها العافية والعمر الطويل لتستمر.
اللافت في كلا النصين الذين خطهما هذا المناضل السوري العظيم، والقاسم المشترك بينهما، هو حرصه على أن يتوحد الثوار والمعارضون وكل السوريين الطيبين، وهو هدف إن كان الجميع قد لاحظ أن ميشيل كيلو ركز جميع نتاجه الفكري في الفترة الأخيرة الماضية عليه ، ولعل الأشهر على هذا الصعيد مقاله الذي خصصه للحديث عن توفر عوامل التعاون بين مختلف أطياف المعارضة، وخاصة الإسلامية وغير الإسلامية، فإن ما يعرفه المقربون منه وكذلك من عمل معه في مؤسسات المعارضة منذ عام 2012 وحتى بعد استقالته منها، هو انفتاحه على الجميع وإيمانه الراسخ بأن سوريا لكل أبنائها.
بل إن هناك من يرى أن ميشيل كيلو ذهب بعيداً في تطلعاته هذه إلى حد أنه سقط في (خطيئة كبيرة) حسب منتقديه، حين امتدح جبهة النصرة عام 2013، في إشارة إلى مداخلته على شاشة بي بي سي في شباط/فبراير من ذلك العام، والواقع أن الرجل لم يمتدح النصرة ولا غيرها من الفصائل في تلك المداخلة، ويمكن العودة إليها على اليوتيوب لاكتشاف سياقها الذي كان كيلو يتحدث فيه عن تخويف النظام الأقليات من الإسلاميين، فرد على سؤال للمذيعة حول هذه المخاوف بالقول إنه زار سوريا قبل عدة أيام وقابل مقاتلين من النصرة ومن مختلف الفصائل واستقبل بحفاوة رغم أنه مسيحي علماني يساري ديمقراطي.
لكن هل كان كيلو مخطئاً في تقديره لنوايا بعض الجماعات الجهادية التي مهدت الأرضية لداعش ومكنتها لاحقاً، وهل افتقد في تلك اللحظة الحكمة والخبرة فغابت عنه حقيقة ما ينتظر السوريين بعد ذلك؟!
الإجابة عن هذا السؤال موجود في الواقع ضمن مقال الأستاذ ميشيل المشار إليه سابقاً، حيث حذر من تسليح الثورة من دون ضوابط، ومن الانزلاق في مستنقع الطائفية، ومن الانجرار خلف وعود بعض القوى الدولية بالتدخل العسكري في سوريا، وأكد على خطورة الارتماء في أحضان الدول أو التنظيمات الخارجية التي لا يمكن أن تمنح السوريين حريتهم، وحث الجميع على التوحد في خندق واحد لمواجهة النظام الذي سيستثمر في انقسامات المجتمع الطائفية والعرقية، وفي خلافات تيارات المعارضة وفي تسلط الجماعات التي ستمتلك السلاح على الجميع، وتقود السوريين للتناحر والاقتتال والتبعية للخارج، وهو ما حصل لاحقاً بشكل حرفي، حتى إن من يقرأ هذا المقال اليوم لن يصدق أنه كُتب قبل تسع سنوات، بل قبل تسعة أيام فقط!.
“كيف تستعيد الثورة رهاناتها الأولى وطابعها كثورة سلمية يقوم بها مجتمع واحد لصالح جميع أبنائه؟.. وكيف تجعل العامل الداخلي، الذاتي، أكبر وأكثر تأثيراً من العامل الخارجي؟.. وكيف تنجو من لعب الطائفية والمذهبية والمال المسموم، وتسترد وحدتها واعتزازها بتواضع وأخلاق القائمين بها؟”..
أسئلة طرحها المعارض التاريخي للنظام، بعد عام واحد فقط من اندلاع الثورة، ليخلص في المقال نفسه إلى إجابات واضحة يمكن تلخيصها بـ “التوحد وإيمان جميع السوريين ببعضهم البعض، وبعملهم المشترك لتحقيق أهداف ثورتهم” كما قال وقتها، فـ”ثورة سوريا ليست حزبية أو مذهبية، ولم ولن تكون من صنع جماعة أو مذهب. إنها ثورة شعب ومجتمع وطنيين من أجل الحرية والكرامة والعدالة: الأهداف التي لن يقوى على انتزاعها أي حزب ولن تأتي بها أية جماعة ولن ينجزها أي مذهب بمفرده، ويتطلب تحقيقها أعلى قدر من الوحدة الوطنية”.. يختم ذلك المقال.
هل كان الأستاذ الكبير ميشيل كيلو أذكى من الآخرين فرأى ما لم يرَ غيره وقال ما لم يقله الآخرون؟!
بالطبع لا، فكثير من السوريين خلص إلى هذه التقديرات في وقتها، وربما قبل ذلك، لكن ميزة هذا الرجل الذي وهب حياته منذ تسلم النظام الحكم من أجل مناهضة استبداده ودفع ثمناً باهظاً بسبب ذلك، ميزته أنه لم يكتف بالأقوال والتنظير، بل كرس كل جهده خلال السنوات التي سبقت الثورة والتي تلتها من أجل تقريب وجهات النظر بين قوى المعارضة، إلى الحد الذي كان بعض الانتهازيين يستغلون صدق نواياه واستعداده للتضحية في سبيل هذا الهدف لتحقيق صعود مرحلي يضمن مصالحهم الشخصية أو الحزبية، وإذا كان البعض يرى أن هذه من سلبيات الرجل، فإنني لا أراها إلا فضيلة أخرى تحسب له، فليس ذنباً أن تكون صادقاً ومخلصاً.
والحال أن ميشيل كيلو لا يتوقف كثيراً، كما يبدو، عند تقييم الآخرين له، بل يمضي حتى الرمق الآخر مكافحاً في سبيل ما آمن به وأخلص له طوال الوقت، وهو وحدة السوريين باعتبارها طريق خلاصهم الوحيد، ولذا فهو يختار أن تكون آخر رسائله (التي نرجو ألا تكون الأخيرة طبعاً) دعوة ملحة من أجل هذا الهدف، وهنا أختم بمقتطفات من هذه الرسالة:
“لا تنظروا إلى وطنكم من خلال أهدافكم وإيديولوجياتكم، بل انظروا إليهما من خلال وطنكم، والتقوا بمن هو مختلف معكم”.
“لن تقهروا الاستبداد منفردين، وإذا لم تتحدوا في إطار وطني، فإن المستبد سيذلكم إلى زمن طويل جداً، ففي وحدتكم خلاصكم لذا تدبروا أمرها بأي ثمن”.
“لن تصبحوا شعباً واحداً ما دمتم تعتمدون معايير غير وطنية وثأرية في النظر إلى بعضكم وأنفسكم، وهذا يعني أنكم ستبقون ألعوبة بيد الأسد الذي يغذي هذه المعايير بينما تعتقدون أنكم تقارعونه..”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا