حادثة قناة السويس تسلط الضوء على هشاشة العولمة

جون نيكولز*    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

تشبه سلسلة التوريد العالمية رقصة باليه متقنة، حيث الخطوات والحركات مُصممة بعناية بالغة. ولا يظهر ذلك في أي مكان أكثر مما يظهر في تدفق الحاويات التي تنتقل من خلالها 60 % من التجارة البحرية في العالم. وتستلزم معايرة تدفق ما يزيد على 800 مليون صندوق حاوية كل عام آليات تعقُّب متطورة تضمن وصول الحاويات إلى وجهتها. ويمتد النظام حتى يصل إلى مشغِّل الرافعة الذي يقوم بتكديس كل صندوق في مكان محدد على ظهر السفينة، ويضمن وجود عدد كافٍ من الصناديق الفارغة في المكان لتحميل الشحنة التالية.

في الأسابيع الأخيرة، تحولت رقصة الباليه هذه إلى رقص فوضوي صاخب فاقد النظام، عندما خرجت شخصية في العرض، تدعى “إم. في. إيفر غيفن”، عن دورها المصمم، لتفسد بذلك رقصة الباليه بأكملها. وحدث ذلك حين أغلقت أهم ممر تجاري في العالم، قناة السويس، الشريان الذي يمر عبره 30 في المائة من حركة الحاويات في العالم. وتردد صدى التأثيرات في كل أنحاء الكوكب. وارتفعت أسعار النفط. واحتُجزت السفن في الموانئ الرئيسية، من روتردام إلى نيوارك. وتأخر تسليم الطلبيات من المتاجر وشركات التجارة الإلكترونية. وكانت لكل من شركتي “أمازون” و”إيكيا” العالميتين شحنات على متن السفينة “إيفر غيفن” نفسها.

في عالمنا الذي أصبح يعمل على نظام “التسليم في الوقت المناسب بالضبط”، حيث تعمل السفن كمستودعات عائمة بأوقات مجَدوَلة بدقة، يؤدي انقطاع لمدة أسبوع إلى بقاء الأعمال غير المنجزة متراكمة لفترة أطول. وقد يستغرق الأمر أيامًا فقط لفض ازدحام المرور البحري واستعادة العمليات الطبيعية للقناة. لكن كبريات شركات شحن الحاويات تتوقع أن الأمر قد يستغرق أسابيعاً -أو حتى أشهراً- لإعادة ترتيب الأمور، حيث تتكدس السفن التي خرجت عن الجدول الزمني المرسوم في الموانئ المزدحمة. وكانت صناعة الشحن تعاني مسبقاً من آثار الوباء على العمليات، والطريقة التي حول بها مشتريات المستهلكين من المطاعم والترفيه إلى السلع الاستهلاكية. وكانت الحاويات شحيحة في آسيا حيث ظهر الكثير من الشحن، والتكاليف مرتفعة. ثم راكم انسداد قناة السويس المزيد. وذكرت “إم. أس. سي”، ثاني أكبر شركة شحن للحاويات في العالم، أنه “سيؤدي إلى واحد من أكبر الاضطرابات في التجارة العالمية في السنوات الأخيرة”.

تشكل حقيقة أن انحراف سفينة واحدة عن مسارها قليلاً يمكن أن يؤدي إلى تعطيل الاقتصاد العالمي بأكمله جرس إنذار عالي الصوت، وتؤشر على هشاشة شبكات التجارة -وعالمنا المعولم بشكل عام. وكان ما حصل في قناة السويس مجرد واحد فقط من عدد من أعطال النظام التي رأيناها في السنوات الأخيرة. في العام 2008، عندما أدى إفلاس “ليمان براذرز” إلى توقف تدفقات الأموال، تعرض النظام المالي العالمي كله للانهيار. وفي العام 2020، أدى انتشار فيروس من الخفافيش إلى البشر إلى تمزيق الاقتصاد العالمي ونظام الرعاية الصحية غير المستعدَّين لمواجهة جائحة. وهكذا، فإن كل ما يتطبه الأمر، في نظام عالمي شديد الترابط، هو سقوط قطعة دومينو واحدة.

يستدعي كريس براينت، كاتب العمود في “بلومبرغ”، هذه الفكرة في مقالته المعنونة، “السويس تُظهر أن الحضارة أكثر هشاشة مما نعتقد”. وحسب الكاتب، جاء هذا الانسداد ليكون بمثابة “تذكير بأنه حتى حضارة متقدمة مثل حضارتنا لديها نقاط ضعف حادة… والتي كثيرًا ما لا نوليها اهتمامًا كافيًا إلى أن يحدث خطأ ما. ويكافح مصممو الأنظمة لتجنب نقاط الفشل الفردية هذه، بحيث تكون شبكات النقل والطاقة والاتصالات قادرة على تحمل الهجمات أو الكوارث غير المتوقعة… لكن البنية التحتية العالمية، بمفهومها الواسع، ما تزال تعاني من عدد مذهل من نقاط الضعف. وقد يكون من الصعب علاجها، لأن إنشاء خيارات احتياطية شأن مكلف ويتعارض مع اقتصاديات الحجم” التي تسعى إلى خفض التكاليف.

كانت اقتصاديات الحجم وراء الانفجار في أحجام السفن، من النوع الذي أدى إلى انسداد قناة السويس. ومن أساسيات منطق العولمة والرأسمالية النيوليبرالية التي تدعم هذه الاقتصاديات فكرة أن السوق يعرف الأفضل. حرِّر السوق من التنظيم، وسوف ينتج النتائج الأمثل. أزِل الحواجز التجارية بين الدول حتى تتمكن سلاسل التوريد العالمية من البحث عن المنتجين الأقل تكلفة والأكثر كفاءة. دع رأس المال يتدفق بحرية حتى يتمكن من العثور على أكثر الاستثمارات إنتاجية. اضغط التكاليف أينما استطعت، حتى لو كان ذلك يعني أن سلسلة المستشفيات الخاصة لم تعد تخزن معدات الحماية، أو أن لا تقوم الشركة المصنعة للسيارات بتخزين رقائق الكمبيوتر الضرورية للحفاظ على تشغيل خطوط التجميع. سيكون “التسليم في الوقت المناسب بالضبط” أفضل بالنسبة للنتيجة النهائية -إلى أن تأتي جائحة أو تنغلق قناة لتُظهر خلاف ذلك. أما أن الانغلاق الأخير استمر أسبوعاً واحداً فقط، فحسن طالع للعديد من الصناعات.

يؤكد إغلاق قناة السويس على “هشاشة التجارة العالمية”، كما كتب سي أودي باسكار، مدير جمعية الدراسات السياسية في الهند، في صحيفة “هندوستان تايمز”. وأضاف: “بينما اكتسبت سلسلة الإدارة اللوجستية في جميع أنحاء العالم درجة عالية من الكفاءة عن طريق تصنيع البضائع وفقًا لجداول زمنية صارمة والإبقاء على تكاليف المخزون/ المستودعات/ الشحن في الحد الأدنى، حتى مع ضمان التسليم في الوقت المناسب إلى العميل، فإن وقوع حادث غير متوقع مثل إغلاق قناة السويس يمكن أن يؤدي إلى اضطراب على شكل متوالية للتجارة أسفل الطريق، مع ما يصاحب ذلك من عواقب اقتصادية”.

يفيد اعتماد منطق السيطرة على النفقات والميزانيات لتحقيق الكفاءة الاقتصادية مصالح الشركات الخاصة. ولكن، من خلال تجاهل الاعتبارات الأوسع للمصلحة العامة، فإن هذا المنطق يُخرج المرونة من النظام. والمرونة مفيدة على نطاق واسع، لكن الحفاظ عليها يكلف المال. وعندما يسود منطق السوق، فإن المحصلة النهائية هي التي تكون الحكَم النهائي. ثم عندما تهب رياح شديدة، فإنها تدفع القدرات التكيُّفية إلى نقطة الانهيار.

في عالم يزداد اضطرابًا، تهب الرياح بقوة أكبر -حرفياً. وفي حالة “إيفر غيفن”، قد تكون للعاصفة الرملية الصحراوية التي دفعت السفينة الشاهقة إلى الضفة جذور في مناخ يصبح أكثر فوضوية باطراد. ولاحظ عالم الأرصاد، جيف ماسترز، أن جبهة باردة اندفعت فوق مصر في 23 آذار (مارس)، وأثارت رياحًا شديدة بشكل غير مألوف بلغت سرعتها 29-35 ميلاً في الساعة من الجنوب إلى الجنوب الشرقي عبر البحر الأحمر عند مدخل القناة حيث جنحت السفينة، تماماً بالزاوية المطلوبة لدفع السفينة خارج القناة العميقة في مركز القناة. كما تم الإبلاغ عن هبات تصل سرعتها إلى 70 ميلاً في الساعة. ومما زاد الأمور سوءاً أن الجبهة الباردة سبقتها حرارة شبه قياسية في المنطقة. وساهمت التربة الجافة في هبوب العاصفة الرملية التي تسببت للسفينة في مشاكل في الرؤية.

ويلاحظ ماسترز: “كان نمط الطقس واسع النطاق المسؤول عن العاصفة الرملية متطرفاً للغاية، وكان من الممكن أن يساهم تغير المناخ في جعل هذا الحدث أكثر تطرفاً. وأظهرت ملاحظات أنماط الهواء في المستوى العلوي عند 500 مليبار (حوالي 18.000 قدم) في ذلك التاريخ نمط تيار نفاث متضخم للغاية ومتموج، مع سلسلة من التلال القوية للضغط العالي فوق الشرق الأوسط وحوض قوي للضغط المنخفض إلى الغرب منه مباشرة فوق وسط البحر الأبيض المتوسط… كانت هناك زيادة حادة في أنماط التدفق النفاث المتطرفة المماثلة، بسبب التغير المناخي، في الصيف”.

يتم تعقب أسباب التيار النفاث المتموج بشكل متزايد إلى الاحترار في القطب الشمالي. ويحافظ الاختلاف القوي في درجات الحرارة بين القطب الشمالي وخط الاستواء على التيار النفاث محددًا وثابتًا. وعندما يقل هذا الاختلاف، يصبح التيار النفاث أبطأ وأكثر تموجًا، ويحمل الهواء البارد إلى أقصى الجنوب والهواء الدافئ إلى أقصى الشمال. ويساهم التأثير الناجم في فقدان في الجليد البحري وينتج عنه على حد سواء. وعلى الأقل، يعتقد المزيد والمزيد من العلماء بأن هذا هو واقع الحال.

أحد الباحثين البارزين في هذا المجال هو مايكل مان من جامعة بنسلفانيا. وفي رده على استفسار ماسترز، أجاب مان: “يدعمُ عملنا بالتأكيد صحة الحديث عن حدوث زيادة في حالات الطقس القاسية المستمرة من هذا النوع (في الواقع، هناك دراسة جديدة تؤكد أن هذه الأحداث تتزايد بالفعل في أوروبا أثناء موسم الطقس الحار)، وبذلك، تبدو الصلة مقبولة ولكن لم يتم تأكيدها”.

ويضيف ماسترز، “في حين أن الصلات بين جنوح ‘إيفر غيفن’ وإغلاق قناة السويس وبين تغير المناخ هي مجرد تكهنات، فإن هذا الحدث يعمل كتحذير من أنه يمكن توقع أن يتسبب تغير المناخ في زيادة الأحداث المتطرفة التي ستؤثر على نقاط الاختناق الحاسمة للتجارة العالمية”. واستشهد بتقرير صدر في العام 2017 عن “تشاتام هاوس”، والذي أشار إلى 14 نقطة اختناق عالمية ضرورية لشحن المواد الغذائية التي يحتاجها 2.8 مليار شخص، والتي شهدت كلها انقطاعات – باستثناء واحدة- بين العامين 2002 و2017.

يتركنا عالمنا المترابط على مستوى الكوكب بشكل متزايد عرضة للخطر بالكثير من الطرق. ويصبح الأمر أكثر سوءًا مع زيادة الانقطاعات. وكان انسداد قناة السويس أحدث مثال على ذلك. والآن، حان الوقت لإعادة النظر في المنطق الاقتصادي للعولمة، والانتقال إلى إطار اجتماعي وبيئي أوسع، والذي يقود بعيدًا عن المصالح الخاصة وفي اتجاه الصالح العام المشترك. وسيعيدنا ذلك إلى الأماكن والمجتمعات.

في كتاب كان بمثابة إنجيل للحركة المناهضة للعولمة في التسعينيات، هو “القضية ضد اقتصاد العولمة ولصالح عودة إلى المحلي”، تساءل المشارك في التحرير، جيري ماندر: “هل يعمل هذا النظام؟ ومن هو الذي يستفيد من هذا؟ هل هم العاملون، الذين يبدو أنهم، في الولايات المتحدة على الأقل، يفقدون وظائفهم بشكل أساسي بسبب الآلات وهجرة الشركات؟ هل هم المزارعون الذين يدفعون للخروج من أراضيهم، سواء في آسيا أو إفريقيا أو أميركا الشمالية، لإفساح المجال أمام زراعة الشركات الضخمة أحادية الثقافة…؟ وماذا عن النتائج البيئية؟ هل يمكن إدامة هذا الاستهلاك المتزايد باطراد إلى الأبد؟ هل أصبحنا، كأفراد، وكعائلات، ومجتمعات وأمم، أكثر أمانًا، وأقل قلقًا، وأكثر تحكمًا في مصائرنا؟ حتى في مستوى الأداء الأمثل، فإن الفوائد طويلة الأجل تذهب إلى أقلية صغيرة من الأشخاص الذين يجلسون في محور العملية، وإلى أقلية أكبر قليلاً يمكنها الاحتفاظ بعلاقة اقتصادية بهذا المحور”.

تظل أسئلة واستنتاجات ماندر مقنعة وصالحة الآن كما كانت عندما نُشرت لأول مرة قبل 25 عامًا. وكما ورد في الوصفة التي يقدمها الكتاب، فإن الاقتصادات تصبح أكثر توجهاً نحو المحلية، نحو المجتمعات، ونحو النظم البيئية. وكان قد تم التقليل من شأن أولئك دافعوا عن مثل هذه العودة إلى المحلية واستبعادهم باعتبارهم حالمين، خياليين ومثاليين، يتعارضون مع الاتجاهات الحتمية. وإذا كانت حادثة السويس قد أظهرت أي شيء، فهو أن أولئك الذين يعتقدون أنه يمكننا الاستمرار في تشغيل الآلة العالمية -كما فعلنا- بلا أعطال وانقطاعات هم الحالمون الحقيقيون، وأنه لا يوجد شيء عملي أو واقعي أكثر من البحث عن طرق لتقريب الاقتصاد من الوطن.

*Patrick Mazza: عضو مؤسس لفريق “حلول المناخ”. طور القاعدة المعرفية لكثير من أنشطة الفريق وساعد في تشكيل أجندات الاستدامة والتكنولوجيا النظيفة لصانعي السياسات والباحثين وقادة الأعمال في جميع أنحاء الشمال الغربي. عمل مديراً للبحوث حتى نهاية العام 2013، وانتقل الآن للعمل من خلال شركته الاستشارية العالمية المستقلة للاستدامة، MROC، ويعمل كمنسق مشارك لمجموعة العمل للحلول المستدامة في “سياتل 350” وكعضو في إدارتها العامة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Suez Highlights the Fragility of Globalization

المصدر: الغد الأردنية/(ذا نيشن)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى