هل احتواء الصين ما زال ممكناً؟

وليد صافي

ارتكزت سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، على فتح الطريق أمام الصين للاندماج في نظام التجارة العالمي وذلك من بوابة منظمة التجارة العالمية. كان الهدف الأساسي لهذه السياسة خلق الظروف الداخلية لتعميم قيم السوق الحرة وقيام طبقة صينية تتناقض مصالحها مع الحزب الشيوعي الصيني، وبالتالي تهيئة أرضية تغيير النظام من خلال “الثورة الناعمة”.

يجمع الكثير من المحللين على أن هذا الأمر اكتشفه الصينيون باكراً، وأن تقدم الصين وتطورها قد بدآ مع السياسات التي تبناها الرئيس الصيني دينغ شياو بينغ الذي تولى الرئاسة منذ العام 1978 وحتى العام 1992.

تبنى دينغ في ذلك الوقت نظرية السوق المفتوحة أو السوق المتحررة، وله نبوءة “تقول إن الصين تحتاج الى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث السياسي والسيطرة السياسية والاقتصادية”، وهو صاحب شعار “اخفِ قوتك وانتظر وقتك”. استراتيجية الصعود التي سارت بها الصين من خلال سياسات التحديث مع دينغ مهندس الإصلاح وبعده، وضع الخطة الأميركية لتغيير النظام أمام تحديات كبيرة، لا بل تحولت الى ما يشبه الوهم بعدما انخرطت الصين في شكل فاعل في نظام التجارة العالمي، واستفادت من المزايا التي قدمتها العولمة الاقتصادية وسياسة الاعفاءات في منظمة التجارة، وتمكنت من مضاعفة حجم الاقتصاد الصيني خلال العقود الأربعة الماضية من نحو 300 مليار دولار عام 1980، ليقترب من 13 تريليون دولار مع نهاية العام 2017، وذلك بنسب معدلات للنمو تجاوزت 10 في المئة. فضلاً عن تبني سياسات داخلية ساهمت بانتشال حوالي 700 مليون صيني من الفقر، والنجاح في خلق طبقة متوسطة ارتبطت مصالحها وصعودها الاجتماعي – الاقتصادي بالنظام القائم. نجاح التجربة الصينية هذا، أذهل العالم وقد عبّر عنه ديفيد مان كبير الاقتصاديين في بنك ستاندرد تشارترد Standard Chartered بأن أطلق على الصين لقب “ورشة العالم وأكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ”. وبالنتيجة، تمكن الصينيون من بناء نموذج يتعايش فيه حكم الحزب الواحد واقتصاد السوق، الأمر الذي أعاد البحث بصلاحية الطروحات التي تفترض إحاطة الليبرالية السياسية بالليبرالية الاقتصادية والتي تعد أحد شروط نجاحها الرئيسية.

حافظت الصين على تقدمها الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي من خلال سياسات التحديث والإصلاح. ولعل أبرز التحديات التي واجهت الولايات المتحدة الأميركية، كانت في تولي شي جين بينغ رئاسة الصين في عام 2013، والذي حمل معه رؤية من التكامل الاقتصادي لآسيا وأفريقيا وأوروبا والتي برأيه يمكن أن تؤدي إلى توسعة الاقتصاد العالمي الحالي. وفي هذا الإطار، أطلق شين جين بينغ في أيلول (سبتمبر) من العام 2013 في كازاخستان مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” التي تهدف إلى التكامل اقتصادياً بين كتلة الأراضي الأوراسية حول قيادة بكين. هذا الاقتراح هدفه “ربط الهادئ وبحر البلطيق عبر مقترح يتمثل في حزام اقتصادي على طول طريق الحرير”، وهي منطقة يقطنها ما يقارب من 3 مليارات شخص، وبالتالي موطن ما يزيد على 70 في المئة من سكان العالم وموارده، وتوقع بينغ لهذه المنطقة “أن تصبح أكبر سوق في العالم بقدرات وإمكانات لا مثيل لها”.

الاستراتيجية الصينية هذه تستند الى احتياط مالي يقدر بما يفوق الـ 4 تريليونات دولار أميركي، كما تستند الى تقدم صناعي وتكنولوجي كبير (بلغت استثمارات الصين في قطاع الذكاء الاصطناعي 150 مليار دولار) وإلى ميزان قوى عسكري جديد في المحيط الهندي وفي بحر الصين الجنوبي والشرقي. وقد أشارت دراسة بعنوان “العولمة تتجه شرقاً… أميركا أولاً تفتح الطريق أمام “تنين” الصين الى المبادرات التي اتخذتها الصين في أيار (مايو) عام 2017 في “قمة الحزام والطريق” بمشاركة 28 دولة من قادة العالم بعد أن “قامت في العام 2014 بإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار الذي يضم 56 دولة إضافة الى رأسمال يصل إلى 100 مليار دولار. كما أشارت هذه الدراسة الى قيام بكين بإنشاء الصندوق الخاص بطريق الحرير برأسمال قدره 40 مليار دولار الذي أتاح لها تمويل القروض الخاصة بالبنية التحتية لـ70 دولة على إمتداد بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ، وتولت بناء أكبر ميناء على البحر المتوسط في مدينة بترايوس في اليونان، وخط سكة حديد في دولة لاوس، وممر نقل عبر باكستان. ولا شك في أن الاتفاق الذي أُعلن عنه حديثاً بين الصين وإيران، والذي من المتوقع أن تنفق الصين فيه حوالى 400 مليار دولار على البنى التحتية الإيرانية خصوصاً في قطاع النفط والغاز، سيشكل في المدى المنظور تحديات كبيرة من شأنها أن تنعكس على المشهد الجيوسياسي في الشرق الاوسط وترفع من حدة الاستقطاب القائم.

هذه الرؤية التي طرحها الرئيس الصيني في عام 2013 جاءت لتنسجم مع نبوءة دينغ في إمكان سيطرة الصين السياسية والاقتصادية، كما أتت في مواجهة الصحوة التي ظهرت في السياسة الخارجية لإدارة باراك أوباما السابقة لتصحيح السياسات التي انتهجت في عهد جورج دبليو بوش والتركيز على آسيا قلب الصراع الجديد. وفي هذا الإطار، يقول الكاتب سايمون ليستر في التقرير الذي نشرته مجلة National Interest الأميركية، إن فريق السياسة الخارجية في ادارة أوباما كان يتطلع إلى الهروب من مستنقع الشرق الأوسط، وكان ما يسمى محور الارتكاز الآسيوي جزءاً أساسياً من السياسة الخارجية التي اختارتها كمخرج محتمل.

فرضت هذه الرؤية نفسها على السياسة الخارجية الأميركية لإدارة أوباما التي أخذت تنظر الى هذا التحدي الكبير وموقعه المركزي في الهادئ من منظار بروز الصين كمنافس قوي وتأثير ذلك على قيادة الولايات المتحدة الأميركية للعالم والنظام العالمي برمته. ولا شك في أن إدارة أوباما كانت قد بدأت تتحضر لمواجهة التحول الاستراتيجي الذي فرضته الوقائع الجيوسياسية الجديدة في آسيا، ولعل تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في ذلك الوقت يعبّر عن أهمية هذا التحول حيث قالت: “مثلما كان القرن العشرين هو قرن المحيط الأطلنطي، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن المحيط الهادئ بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وفي إطار هذه النظرة الاستراتيجية باتجاه آسيا والشرق الأدنى يقول ليستر إن إدارة أوباما اقترحت صفقة تجارية بين دول المحيط الهادئ تعرف باسم “الشراكة العابرة للمحيط الهادئ” الأمر الذي يفرض ضغوطاً اقتصادية على الصين. وقد تمكنت هذه الإدارة من استكمال المفاوضات مع 11 دولة أخرى. ولكن لسوء الحظ، وقعت الصفقة ضحية للسياسة الداخلية للولايات المتحدة، حيث كان الجمهوريون في الكونغرس مترددين بشأن تأييد إدارة أوباما، في وقت تمرد اليسار ضد العملية برمتها”.

في النتيجة، انقضى عهد أوباما ولم تتمكن الولايات المتحدة الأميركية لا من احتواء الصين ولا من إعادة تصحيح التوازنات في منطقة المحيط الهادئ. كما لم تتمكن هذه الإدارة من احتواء نتائج السياسات الكارثية، حيث كانت الولايات المتحدة الأميركية غارقة في حربي افغانستان والعراق، في الوقت الذي كانت فيه الصين تعمل على إحداث وقائع جيوسياسية جديدة في منطقتي الهادئ والهندي بهدف السيطرة على الممرات المائية التي تعبر من خلالها موارد الطاقة الى اقتصادات المنطقة.

افتتح دونالد ترامب عهده “أميركا اولاً” على وقع هذا التحدي الكبير الذي ترافق مع السياسات الصينية الهادفة الى تحديث الجيش الصيني والى التقدم الصناعي والسيطرة على الفضاء الالكتروني، ومع احتلال الصين موقع رئيسي في نظام التجارة العالمي من حيث حجم صادرتها اضافة الى تحولها شريكاً اساسياً في التجارة لمنطقة أميركا الجنوبية التي تعتبر الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية. في مواجهة هذا التحدي، وفي مقابل عدم إيمان ترامب بسياسة تعدد الأطراف وفي غياب أي استراتيجية لمواجهة المشروع والرؤية الصينية، انتهج ترامب الحرب التجارية بين البلدين من خلال رفع التعرفات الجمركية الذي قابلته الصين بالمثل، وجاءت نتائجها كارثية على الاقتصاد العالمي، وقد وصف رئيس البنك الاحتياطي الفدرالي التوترات التجارية بين البلدين ومع الاتحاد الأوروبي أنها “تشكل مخاطر جدية على الولايات المتحدة الأميركية والاقتصاد العالمي”. لم تحقق هذه الحرب تقدماً لا في جعل الصين تمتثل لشروط منظمة التجارة العالمية، ولا بإعادة النظر بسياساتها الحمائية لفتح الأسواق الصينية لصادرات الدول الصناعية الغربية. كما لم تشكل ضغطاً على بكين لإعادة هيكلة اقتصادها بما يتوافق مع متطلبات اقتصاد السوق على حد قول سايمون ليستر.

وقد ترافق هذا الفشل في بداية عام 2020 مع الاحتقان السياسي والتجاري مع الشريك الأوروبي، ومع تراجع دور الولايات المتحدة وانكفائها عن قيادة العالم، لا سيما مواجهة نتائح وتداعيات تحول وباء كورونا الى جائحة عالمية، الأمر الذي فتح الباب للعودة الى السياسات القومية، وأضعف ثقة العالم في شكل عام وحلفاء واشنطن في شكل خاص بقدرة الولايات المتحدة الأميركية وإرادتها على قيادة العالم، في الوقت الذي تسببت فيه الجائحة بإقفال الاقتصاد العالمي مرات متتالية، الأمر الذي أدى الى تراجع النمو العالمي والتسبب بخسائر مالية وصلت الى حدود الـ 12 تريليون دولار أميركي في عام 2020.

على وقع هذه التحولات وفشل الحرب التجارية التي قادها ترامب في مواجهة الصين، وانتعاش الاقتصاد الصيني والنجاح في احتواء نتائج جائحة كورونا، والتخلص من أعباء الاتهامات الأميركية بالمسؤولية عن انتشار الوباء، وجدت إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن نفسها في قلب المواجهة عينها. وقد حدد الدليل الاستراتيجي للأمن القومي الأميركي التحديات الرئيسية وفي مقدمها تحول الصين الى قوة منافسة تمتلك قدرات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية. وعلى حد قول نائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس “تسعى الصين للسيطرة على الصناعات الأكثر تقدماً في العالم، بما فيها صناعات الروبوت والتقنيات البيولوجية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الجيل الخامس، كجزء من خطتها الهادفة الى أن تصبح القوة العظمى المسيطرة على العالم في القرن الحادي والعشرين”.

يبدو أن الصراع في القرن الحادي والعشرين سيكون على آسيا التي سترسم مستقبل العالم الجديد وخريطة النفوذ فيه. ولكن التداخل الهائل الذي فرضه نظام الانتاج العالمي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، ربما يمنع القوى العظمى المتنافسة من خوض الحروب التقليدية المباشرة، وعلى الأرجح لن تبقى المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في الميادين السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، مع التصميم الأميركي القوي على استمرار التفوق العسكري والتكنولوجي. ولكن في المقابل، ثمة اسئلة عديدة تطرح نفسها: هل احتواء الصين ما زال ممكناً؟ وهل من تسوية ممكنة لاقتسام النفوذ في آسيا؟ واذا كان الجواب سلبياً، كيف ستكون أشكال المواجهة وتداعياتها على العالم؟ وهل توجهات جو بايدن لبناء شراكة استراتيجية مع المملكة المتحدة في مواجهة تحويل أوراسيا الى منطقة تكامل اقتصادي بقيادة الصين كافية لحسم هذا الصراع؟ وهل لأوروبا من موقع في هذا المشروع؟

على أي حال، في هذا الصراع الكبير على قيادة العالم ما زال فيه التفوق الأميركي قائماً في المجالات العسكرية والتكنولوجية وما زال العم سام يستحوذ على 24.4 في المئة من الناتج العالمي في مقابل استحواذ الصين على 16.3 في المئة. ولكن مع اقتراب الصين الى المستوى الاقتصادي العالمي الذي تحتله الولايات المتحدة الأميركية ومع التطور الذي حققته الصين في الفضاء الالكتروني، تبقى اشكالية تبوّؤ الصين قيادة العالم تدور حول ما طرحته المؤرخة جويا تشاترجي من جامعة كامبريدج بالقول: “إنه اضافة الى اساسيات القوة العسكرية والاقتصادية، فإن كل إمبراطورية ناجحة، ينبغي أن تضع خطاباً عالمياً وشاملاً، لكي تكتسب الدعم من الدول التابعة في العالم وقادتها. يتطلب الأمر قوة ناعمة لطيفة تنطوي على الإقناع الثقافي من أجل السيادة العالمية والناجحة”.

السؤال: هل الثقافة الصينية قادرة على انتاج خطاب عالمي شامل؟ من الصعب التفكير بذلك في المدى المنظور، ولكن أعتقد أن قيم الليبرالية وتلك التي انتجها عصر الأنوار وإن كانت مرشحة للحفاظ على موقعها الأممي لعقود طويلة، فإنها أمام تحدٍ كبير.

استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية – كلية الحقوق والعلوم السياسية

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى