(لم يعدْ هناك وطنٌ)، هذا قول حقّ، بعدما تحوّل السوري إلى مجرد مفردة مُستَهجنة في بطاقة الهوية، أو تهمة مريبة في جواز السفر، بينما ملايين السوريين، وبعد عام 2011، اضطروا للخروج من بلدهم، خوفاً من التعرّض للاضطهاد بسبب انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو القومية أو الاجتماعية، أو بسبب توجهاتهم السياسية.
هجر السوريون وطنهم، أو بالحدّ الأدنى غادروا مناطقهم التي عاشوا فيها، بعدما يئسوا من إصرار البعث على تربيتهم كأولاد مطيعين في حضن الحزب الحاكم المتطرّف، فيما قسم كبير منهم كانوا يعتبرون تنظيمات البعث أداتهم الرابحة دائماً للوصول إلى السلطة والثراء والمتن العام، وبطريقة ما صاروا يربطون مصائرهم السعيدة وأشكال حياتهم بضرورة بقائه، ضامنين بذلك تفوقاً ومكانة متمايزة عن البقية، حيث كان التنافس على أشدّه، بين الأفراد، كذلك الشبكات، والمناطق، والقطاعات، التي تتزاحم على نيل استحسان القيادة، لقضم حصة أكبر من كعكة الموارد السورية، وهو ما عزّزها خضوع مؤسسات الحزب القيادية لهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحوّل عناصر الحزب إلى أدوات لرصد الخصوم والإبلاغ عنهم، مقابل حصولهم على امتيازات ومكاسب مالية أو مناصب.
دراسة عميقة للحالة السورية منذ خمسة عقود، تقدّم تحليلاً موضوعياً لما وصل إليه حال الشعب السوري، الذي يعيش الشتات (بأقسى معانيه) داخل البلاد وخارجها، ولم يكن من المفاجئ وبعدما تبنّى المُحتجّون السوريون، الذين انتفضوا عام 2011، مقاربةً لاطائفية في البداية، أن يطغى الخطاب الطائفي على النزاع لاحقاً، ففي غضون شهر واحد من انطلاق الموجة الأولى من الاحتجاجات، باتت الهويةُ الطائفية عاملاً مهمّاً، في تصاعد النزاع كما في تفسير دوافعه، فالبعث طوال حقبته كان يتقصّد من وراء تغييب المسألة الطائفية إخفاء الطبيعة الطائفية للنواة الصلبة للنظام الأسدي، فأيّ حوار في هذا السياق، كان سيقود للسؤال عن تلك النواة، لذا كان الكبحُ المطلق لأي نقاش حولها، أداةً لطمر طبيعة وسلوكيات النظام الطائفية، وقد ساعد توقّع نشوب العنف الطائفي اليوم، الانقلابُ البعثي الشهير عام 1963، والذي على إثره اندلعت الصراعات الداخلية التي أغرقت البلاد دماً، على شكل حروب أهلية غير مُعلنة، تلك الحروب التي أفرزت إحداها الأخرى، حتى وصلنا إلى الحرب الأهلية السورية الصريحة طوال العقد الأخير.
وكان حزب البعث أداةَ النظام الفعالة لاحتواء السوريين بمختلف أطيافهم، ونجح إلى حدّ كبير في تحويل المجتمع السوري إلى حالةٍ متأصلة مع الأسس الإيديولوجية للنظام المستبدّ، كثيرة العنف، مفروضة على الذات الجمعية للسوريين، الذين كانوا في الحقيقة أطرافاً هامشية لكيانٍ لا وطني يشكّل الحاكمُ المطلق عقله المُدبّر، وهذا ما جعل العملة الأساسية الرائجة في هذا الحكم المُبعثر، والمفتاح الذي يفتح أبواب الامتيازات والموارد، هما الولاء الأعمى للنظام ومدى فائدة الأطراف المعنية في الحفاظ على السلطة، وليس تماماً الانتماء الطائفي، فتلك الديناميكية البعثية، التي لهثت دوماً لخلق توافقٍ ما بين خطاب سياسي رنّان وأفعال مناقضة له تماماً، أثبتت فعاليتها على الدوام، إذ كان كلّ مواطن سوري مبرمجاً بطريقة مُحكمة، أشبه برجلٍ آلي.
فالمواطن عضو في حزب البعث من المهد إلى اللحد، بدءاً بمنظمة طلائع البعث، التي تمثل المؤسسة الفكرية للطفولة التي يبثّ من خلالها أفكاره، مستغلاً غياب أيّ فكر منافس بحكم الدولة وسلطة القانون، ثم اتحاد شبيبة الثورة، لتكون المشرفة على جميع الأنشطة الطلابية للمرحلة الإعدادية، لإفقاد الجيل هويته الوطنية، وإشغاله بالثقافة القومية والشعارات الطنّانة الجوفاء ضد الاستعمار، وتخوين كلّ ما هو خارج عن سلطته ومنظومته، ثم تأتي عملية تنسيب طلاب المرحلة الثانوية بالإجبار لحزب البعث، وربط جميع المدارس بالنقاط البعثية المنتشرة في البلاد، وما إن يدخلَ الرفيق الحزبي الجامعة، وبعدها سوق العمل، سيكتشف أنّ الحزب متغلغل في قطاعات الدولة، من خلال ربط الوزارات الحكومية بالفرق الحزبية عبر المؤسسات العامة الحكومية، وهكذا يصبح تعبير (عضو عامل) هو كلمة السرّ السحرية التي يمكن من خلالها تجاوز الخطوط الحمراء، والتعدّي على الآخرين، والقفز من فوق القانون دون رقيب أو حسيب.
والبعثية السورية التي قامت على أساس هياكل محلية مُبعثرة سمحت للنظام بدمج، أو ترقية، أو تهميش، فئات تنتمي إلى طوائف مختلفة، وفقاً لمدى ولائها وفائدتها في خدمة الهدف المتمثّل بالحفاظ على السلطة، إلى جانب ضخّ العنف السياسي، الذي وصل ذرى شاهقة في حقبة الثمانينيات، ما فجّر نوابع الخوف في العلاقات الاجتماعية، فيما خدم الوجود الطاغي لأجهزة المخابرات كتذكير بأنّ احتمال القمع لا يزال موجوداً، وبالتالي، يمكن نقل المطالب والتظلّمات إلى القيادة ثم تنفيسها في وقت مبكّر، فيتم بذلك تجنّب تفاقم السخط والتوترات الاجتماعية التي قد يولّدها غياب المشاركة الفعلية، أما التفاوتات الفاقعة التي أفرزها نظام المحسوبيات وفق الهويات ما قبل الوطنية، فسمحت بالإدماج الانتقائي لقوى اجتماعية واقتصادية واختصاصيين لا غنى عنهم، من دون المسّ باحتكار القرار لدى القيادة “الحكيمة” أبداً.
وبعد عام 2000، شهدت تلك الفترة انحساراً واضحاً في سطوة الحزب لحساب تغوّل الأجهزة الأمنية، التي شرعت في التصدّي لحراك تمثّل في لجان إحياء المجتمع المدني، ثم إعلان دمشق في 2005 الذي ضمّ أهم قوى المعارضة السياسية بمختلف اتجاهاتها، ومثَّل ذلك تحدياً مباشراً للنظام ولحزبه المدلل، وأدى إلى تهيئة البيئة لانخراط سوريا في موجة الربيع العربي، والتي مرّ فيها حزب البعث بتحولات كبيرة كشفت ترهله وهشاشة بنيته التنظيمية، وهو الأمر الذي اعتبره رئيس النظام والأمين العام لحزب البعث، بشار الأسد، ظاهرةً صحية، ساعدت الحزب بالتخلص ممن وصفهم بـالانتهازيين، أبرز هذه التحولات كان انحياز الآلاف من أعضاء الحزب عن الرؤية الرسمية له، إلى جانب الانشقاقات الكثيرة التي طالته في الجيش والأمن.
وفي الحقيقة لم تندلع الانتفاضة السورية، في بدايتها، بسبب الطائفية، بل بفعلِ جُملة من التظلّمات السياسية والاجتماعية النابعة، أساساً، من فشل الإصلاحات الاقتصادية التي طبّقها نظام بشار الأسد، والتي عزّزها إرثٌ من العنف غيّر بسرعة مدهشة سردية هذا النزاع، وحزب البعث، لا شكّ، رسّخ أسس العبادة الكاريكاتورية للشخصية التاريخية الخالدة التي أحاطت بآل الأسد، ومضامين نزعاته الأسطورية، كانت حول وهم الأمة العربية المتسيّدة والرسالة الخالدة، والإيمان بالحركات الانقلابية، ومناهضة قيم المساواة الإنسانية، والحريات السياسية، ما شوّه شكل الوطن المُشتهى، الذي ربما لم يُوجد أساساً في ظلّ البعث الفاشيّ الذي غدا الفضاء العام لتغوّل السلطة الشمولية، والتي، بدورها، ما كان لها أن تكون بكلّ هذه القدرة على القمع العام والهيمنة المطلقة، لولا عقوداً طويلة من الخطابية والتربية البعثية، التي فرضها واجتاح بها كل أوجه الحياة، لتكونَ بؤراً محتقنة للفساد والانحلال الأخلاقي والمجتمعي، ونتيجة لذلك لا غرابة أن تُستبدل اليوم ديكتاتوريةُ الفرد أو العائلة بديكتاتورية العديد من مراكز القوى العالمية، التي راحت ترسم الخطوط الفاصلة بين المعارضين وبين الموالين للنظام السوري، بالمنطقِ الذي يتوافق فقط مع مصالحها الشخصية.
المصدر: المدن