تتزايد المطالبات الغربية والأوروبية لمحاسبة النظام السوري، قبيل أشهر من الانتخابات الرئاسية التي يعتزم النظام وحلفاؤه إجراءها في منتصف العام الحالي، بهدف التجديد لبشار الأسد لولاية رئاسية جديدة مدتها سبعة أعوام، وسط معارضة دولية للانتخابات، وحتى لنتائجها المستقبلية.
وبعدما بدأت بعض المحاكم الأوروبية الوطنية بتحريك دعاوى ضد شخصيات من النظام، بموجب الولاية القضائية العالمية، برز في الأيام الأخيرة البيان الصادر عن وزراء خارجية 18 دولة أوروبية، والذي حمّل النظام وداعميه المسؤولية الأساسية عن الجرائم التي تُرتكب بسورية، مع التشديد على مكافحة إفلات مرتكبي هذه الأعمال من العقاب ومحاسبتهم.
ولفت البيان المشترك، الذي صاغه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، ووقّعت عليه 18 دولة أوروبية، إلى أن “النظام السوري استخدم مراراً وتكراراً الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، كما حددته بوضوح الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ورفض النظام باستمرار تقديم تفسيرات لفرق التحقيق الدولية، لكن الناجين من هذه الهجمات موجودون هناك للإدلاء بشهاداتهم على ما رأوه وما مروا به”. وأكد الوزراء “أننا لن نظل صامتين في وجه الفظائع التي ترتكب في سورية، والتي يتحمل النظام وداعموه الخارجيون المسؤولية الأساسية عنها. العديد من هذه الجرائم، بما في ذلك تلك التي ارتكبها داعش والجماعات المسلحة الأخرى، يمكن أن ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولذلك، تقع على عاتق الجميع مسؤولية مكافحة إفلات مرتكبي هذه الأعمال من العقاب ومحاسبتهم أياً كانوا”.
وتابع البيان: “نواصل دعوة المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في هذه الجرائم المزعومة ومحاكمة مرتكبيها، لإحباط استراتيجية من يعرقلون إحالتها إلى مجلس الأمن. حشدنا جهودنا لضمان توثيق الحقائق، ريثما يتم فحصها من قبل القضاة المختصين، ولهذه الغاية، دعمنا إنشاء آلية دولية محايدة ومستقلة تجمع الأدلة وتحميها من أجل الإجراءات القانونية المستقبلية. هذه الجهود ضرورية. كما ندعم عمل لجنة التحقيق الدولية المستقلة، التي توثق انتهاكات حقوق الإنسان في سياق الصراع السوري”. وأشاد البيان بجهود المبادرات والمحاكم الأوروبية في محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، بالقول: “من الضروري وقف هذه الانتهاكات التي تم توثيقها بعناية فائقة على الفور، كما أننا مصممون على التمسك بجميع المعايير الدولية لحماية حقوق جميع السوريين، هذا هو معنى المبادرة الهولندية الأخيرة التي تطالب سورية بالمساءلة عن أفعالها لانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. والمحاكم الوطنية، التي فتح بعضها بالفعل إجراءات قانونية، لها دور مهم تلعبه في هذه العملية، في العديد من بلداننا”.
وأشار الوزراء إلى أن “مكافحة الإفلات من العقاب ليست مسألة مبدأ فحسب، بل هي أيضاً واجب أخلاقي وسياسي، ومسألة أمنية للمجتمع الدولي، إذ يشكل استخدام الأسلحة الكيميائية، في أي ظرف من الظروف، تهديداً للسلم والأمن الدوليين. وردا على الهجمات الكيميائية، حشدنا جميع المؤسسات ذات الصلة، التي تلتزم بمعايير حظر الأسلحة الكيميائية. وأطلقنا الشراكة الدولية ضد الإفلات من العقاب على استخدام الأسلحة الكيميائية (PICIAC)، وبفضل هذه المبادرة، أصبح من الممكن إدانة المتورطين في تطوير أو استخدام الأسلحة الكيميائية، ولن نتوقف عن تدفيعهم ثمن جرائمهم”.
ويأتي هذا البيان بعدما شهد شهر فبراير/ شباط الماضي صدور أول حكم قضائي بحق ضابط صف في قوات النظام، كان يؤدي الخدمة في أحد الأفرع الأمنية التابعة للنظام، بعد محاكمة في مقاطعة كوبلنز الألمانية، التي من المتوقع أن تصدر حكماً آخر بحق ضابط آخر من الفرع ذاته. لكن ردة فعل الشريحة الأوسع من السوريين على الحكم والمحاكمة لم تكن بتلك الإيجابية المتوقعة، لا سيما أن الشخصين اللذين خضعا للمحاكمة يعدان من المنشقين عن صفوف النظام في الفترات الأولى من عمر الحراك. كما أن الدعاوى التي حركت بحق مسؤولين كبار من النظام، لا سيما في فرنسا، توضح أنها تعتبر رمزية، دون توقع أن تكون لها نتائج ملموسة في طريق تحقيق العدالة في سورية، فهي رفعت بشكل غيابي، ما يعني عدم إمكانية إحضار المتهمين للمثول في قفص الاتهام داخل المحاكم.
وتبقى تلك المحاكمات والدعاوى محط استفهامات كثيرة حول جدواها وقدرتها على تحقيق العدالة للسوريين، في ظل استحالة جلب المتورطين الرئيسيين بجرائم الحرب إلى المحاكم الأوروبية الوطنية، التي تلقى إشادات من قبل مسؤولين أوروبيين وغربيين، في حين ينتظر السوريون، الذين دفعوا أثماناً باهظة جراء الجرائم المرتكبة من قبل النظام ورموزه، إحالة هذا الملف إلى المحاكم الدولية، لا سيما محكمتي الجنايات والعدل، فهناك يمكن للعدالة أن تأخذ مجراها بتطبيق الأحكام تحت الفصل السابع، بإشراف مجلس الأمن الدولي.
وتعليقاً على البيان الأوروبي، أشار القاضي والخبير القانوني السوري سليمان القرفان إلى أن الدول الأوروبية الموقّعة عليه تُشكر على موقفها بالثبات والتأكيد على محاسبة المجرمين ووضع آليات لعدم الإفلات من العقاب لمرتكبي جرائم الحرب لمسؤولي النظام السوري. وأضاف، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “المحاكمات التي تجري اليوم في أوروبا في هذا المجال، محطة إيجابية لكنها رمزية في آن معاً، غير أنه من الممكن أن يبنى عليها مستقبلاً، وهي تحمل رسالة للمجرمين بأن المحاسبة آتية لا محالة، وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم”.
ووصف القرفان البيان الصادر عن الدول الأوروبية الـ18، بـ”الهام للغاية”، مضيفاً: “كوننا رأينا بعض المتصدرين في المشهد السياسي السوري، قد يجنحون للتنازل عن حق السوريين وطي الصفحات، بذريعة التخفيف من وطأة الحرب على السوريين، لكن هذا الشيء غير سليم وغير صحي في سياق القضية السورية”. وأكد أنه “إذا كنا نريد الانتقال من البلاد التي عاشت تحت حكم استبدادي وحالة حرب طويلة وطاحنة إلى مرحلة استقرار، فيجب أن تكون محاسبة المجرمين من أولى الأولويات، لأن عدم المحاسبة يعني تكرار الانتهاكات بشكل مستمر”. وشدد على أن البيان الصادر عن الدول الأوروبية “يجب استثماره بشكل صحيح، لا سيما أن المعركة اليوم في القضية السورية قانونية بامتياز، وعلينا التركيز عليها كسوريين، ويسندنا في ذلك القرار الأممي 2254، الذي ينص على محاسبة المجرمين ومرتكبي جرائم الحرب، وهذا الحق لا يمكن التنازل عنه تحت أي ذريعة، ومنها الإسراع في إيجاد حل ينهي المأساة السورية”.
وتشكل هذه التحركات الأوروبية والغربية مزيداً من تضييق الخناق على النظام وحلفائه الراغبين بإعادة تعويمه، الأمر الذي قد يفرز للقضية السورية تطورات مفصلية داخلها، لا سيما مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي، والموقف الدولي الرافض له، بانتظار تحركات ملموسة، غربياً ودولياً، في هذا الجانب في المستقبل القريب.
المصدر: العربي الجديد