الوجود الروسي في سورية احتلال صريح، أحد الأنماط الاستعمارية، بل يبدو أقرب إلى النمط الإمبريالي في مراحله الأولى، والذي تميز بالفجاجة والقسوة المفرطة التي طالما كان يتم التعبير عنها بسياسات اجتثاثية تجاه السكان الأصليين، ونهب موارد البلاد حتى الرمق الأخير.
لا يلغي شعار محاربة الإرهاب، الذي يرفعه الروس، حقيقة أنهم طرف مستعمر، فجميع المستعمرين رفعوا شعاراتٍ برّاقة، من نوع تحضير المجتمعات التي يستعمرونها، أو قيامهم بمهام جليلة لإنقاذ البلدان التي دخلوها من الفقر والمرض والتخلف، في حين كانت هذه الشعارات وسيلةً لإخفاء مآربهم، بل ومحاولة لشرعنة جرائمهم التي يرتكبونها بحق المجتمعات المستعمرة.
منذ ستة أعوام، نفّذت روسيا عملية احتلال علني لسورية، بدأتها بإعلان الحرب على قطاعات واسعة من المجتمعات المحلية السورية، وغزو مناطق عديدة في البلد، بذريعة وجود طلب من نظام الأسد الذي تعتبره روسيا يمثل الدولة السورية. وبناء عليه، جعلت روسيا أكثر من ثلثي مساحة البلاد والسكان هدفاً لضرباتها، مستثنيةً تلك المساحة وهذا الكم السكاني من أي قانون دولي أو إنساني، بما يعطيها الحرية لتجربة مختلف أنواع أسلحتها، وكل أنماط القتل التي تستطيع أسلحتها إنجازها.
بموازاة ذلك، وضعت روسيا يدها على جميع الأصول الإستراتيجية والاقتصادية في سورية، من موانئ ومطارات وحدود، وأيضا حقول النفط والغاز والفوسفات، وبعقود ذات آجال طويلة، وقابلة للتمديد، ما يعني أنها حالة استعمار لا أفق لنهايتها.
والأهم من ذلك كله تحكّمها بالحياة السياسية السورية، وشكل التسوية المحتملة. والمفارقة أن روسيا تريد تشكيل معارضةٍ على مقاساتها ووفق شروطها، وتريد إخضاع المجال السياسي السوري، المؤيد والمعارض، لسلطتها، وفق إدارة غرائبية من نوعها، ولا تطمح في تحقيقها حتى في روسيا نفسها.
والمفارقة الأكثر إذهالاً أن روسيا تطلب من العرب تمويل احتلالها سورية، من دون أن يحق لهم التقدّم باشتراطات ومطالب معينة، ولو إفراجا عن مئات آلاف المدنيين المعتقلين، أو إجلاء مصير المفقودين، بذريعة التهديد بأنهم يسيسون المساعدة الإنسانية لسورية. وتتضمّن هذه المساعدة ضخ مئات مليارات الدولارات لتشغيل شركات روسيا ومن يتبعها من رجال أعمال الأسد!
أمام هذا التجبر الروسي، والاستباحة الفاقعة للبشر والحجر، والاستهتار بمستقبل السوريين الحاليين والقادمين، وحصيلة الكارثة الثقيلة التي أنتجتها آلة القتل الروسية، لماذا لم تنشأ مقاومة ضد روسيا؟ وهو أمر خالف كل التقديرات التي ذهبت إلى احتمال مواجهة روسيا مصاعب جمّة في سورية. التفسير الأقرب إلى الوقائع أن روسيا، عندما دخلت الميدان السوري، كانت جميع القوى، وخصوصا المعارضة، قد وصلت إلى حالة من الاستنزاف، بعد أكثر من ثلاث سنوات حرب، لم تتوقف يوما واحدا، حيث استخدم النظام كل ما ادّخرته الدولة السورية من أسلحة، على مدار عقود من العسكرة، وما ورّدته مخازن إيران، ضد معارضين شكلوا هياكلهم الفصائلية تحت وابل النيران.
كما أن روسيا دمجت قواتها ضمن التحالف القائم على الأرض السورية، والمناهض للثوار، وبالتالي أصبحت جزءاً من الحروب التي ظلت مستمرّة إلى بداية العام الماضي، والمتقطعة. وبالتالي، كانت المواجهات على مختلف الجبهات مقاومةً للروس، وإن لم يتم إعلانها بشكل صريح، بالإضافة إلى أن الاحتلال الروسي، الذي يعتبر أحد مخرجات المشروع الجيوسياسي الروسي للمنطقة، يتلطى خلف مهمة الحفاظ على نظام الأسد، وهو المشروع الذي لا يزال غالبية السوريين يقاومونه.
وبخلاف ذلك، يحتاج مشروع مقاومة الاحتلال الروسي ساحات خلفية تمد الثوار السوريين بالأسلحة والإمدادات الضرورية واللازمة لإدامة المقاومة، وجعلها تحقّق نتائج مؤلمة لروسيا، وهو ما أثبتته تجارب المقاومة في فيتنام والجزائر، ولم يحصل في سورية نتيجة التفاهمات التي أجرتها روسيا مع الفاعلين الدوليين والإقليميين، ما أدّى إلى تحييد تأثيراتهم على الداخل السوري، وشكّل محدّداً لأي إمكانية مقاومة للاحتلال الروسي.
بالإضافة إلى ذلك، لم يكن خافياً أن السوريين كانوا يفاضلون بين الوجودين، الروسي والإيراني، وبنوا رهاناتٍ على إمكانية الاستفادة من الوجود الروسي الذي ستدفعه الحسابات العقلانية إلى موازنة مواقفه في إدارته الصراع، وخصوصا على صعيد التسوية السياسية النهائية. ولكن ذلك كله لا يبرّر عدم وجود مقاومة صريحة وعلنية للروس، الذين ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنهم قوّة احتلالٍ غاشمة، والطرف الذي أضرّ بالثورة السورية إلى أبعد الحدود، بل وأجهض الحلم بإمكانية تحقيق تغيير في سورية، على الرغم من الأثمان الباهظة التي قدمها السوريون. ولا تفسير لذلك سوى أن المعارضة المسلحة باتت رهينة سياساتٍ خارجية، وتحديداً السياسة التركية التي باتت توجه عشرات آلاف البنادق لخدمة أمنها القومي، ومصالحها خارج سورية، ووضعت قوّة هذه البنادق تحت سقف التفاهمات الروسية – التركية، متكئةً على ضيق أفق قيادات هذه القوى التي ترى أن سيطرتها على أجزاء صغيرة من الأرض السورية يحقّق طموحاتها السلطوية.
لا يوجد احتلال مقاومته مستحيلة، ولا ظروف تمنع نشوء مقاوماتٍ ضد الاحتلالات. لكن توجد دائماً نخب تحرف المقاومات عن أهدافها، وتدفعها باتجاه تحقيق أهداف صغرى وهامشية. ويبدو أن النخبة السورية الحالية، السياسية والعسكرية، استنفدت قدرتها على اجتراح صيغ جديدة لتحقيق المشروع السوري في الحرية والتغيير، وعلينا انتظار جيل آخر لديه رؤى مختلفة.
المصدر: العربي الجديد