في عمق الانعطاف الكبير الراهن في عالمنا، سيتطلب الأمر الكثير من الحكمة لنفهم ما يحدد مصائر الدول والتيارات الفكرية والزعماء، إذ ليست الفهلوية ولا الشطارة ولا الفروسية هي التي تصنع الزعماء. وحقيقة الأمر أن ما يتوهمه السياسيون عن قدرتهم على صنع التاريخ لا يعدو، في أحسن الأحوال، أن يكون تكيّفات فكرية برنامجية وخطابية مع الشروط التاريخية الحاكمة.
عام 1945، أي في نهاية 31 عاماً من موعد انفجار الحرب العالمية الأولى، خسرت أوروبا مئة مليون إنسان، قُتلوا لأسباب سياسية، وخرجت من الحرب 18 دولة مفلسة ومدمرة باستثناء دولة واحدة هي الولايات المتحدة. وكانت نتيجة هذه الحروب انهيار خمس إمبراطوريات كبرى.
كان التساؤل الأكبر عام هو: من العدو الآن؟ وما الذي سيتبقى من التحالف الذي أسقط النازية؟
سرعان ما أجاب ستالين عن هذا السؤال. إذ أعلن في عيد العمال عام 1946 انفضاض التحالف ضد النازية، وأن عهد الشيوعية قد آن، وأنها ستدمّر الرأسمالية المسؤولة عن مآسي البشرية. هذا الخطاب نقل الغرب وأميركا من حالة الغبطة التي سادت بعد الحرب عن تعايش وسلام الى حالة جديدة يصبح فيها قهر الشيوعية أولوية قصوى.
بذلك عملت أميركا بسرعة على خلق الشروط التاريخية لتحقيق هذا الهدف، مستفيدة من قدراتها العسكرية، وبخاصة بحريتها المتقدمة وقوة اقتصادها، فقامت بتأسيس نظام اقتصادي واستراتيجي وسياسي عالمي جديد قائم على مبدأ بسيط تم رسمه في مؤتمر بريتون وودز 1954.
في بريتون وودز قدمت الولايات المتحدة عرضين مغريين للدول الحليفة المنهارة: فبعدما كانت هذه الدول تبني أساطيل وتحتل المستعمرات من أجل ضمان وصولها الى الموارد والأسواق، أعلنت أميركا أنها ستكفل حرية التجارة العالمية وتضمن حرية التبادل، ثم أعلنت أنها سوف تفتح أسواقها لمنظومة الدول الحرة من دون حواجز، وذلك تحت الحماية الكونية للبحرية الأميركية.
مقابل ذلك، حصلت الولايات المتحدة على اعتماد العالم الدولار العملة الدولية المهيمنة، وحصلت من حلفائها على تعهّد بمكافحة الشيوعية.
نجم عن ذلك انهيار مبررات الاستعمار القديم، وانسحاب أوروبا من مستعمراتها تدريجياً، وساد عملياً السلام الأميركي Pax Americana القائم على بريتون وودز واحتواء الاتحاد السوفياتي وصولاً الى خنقه، إضافة للتخطيط لشطر التحالف الصيني السوفياتي.
وما كان كل ذلك ممكناً لولا قوة القدرات العسكرية الهائلة التي تستطيع من دون منافس أن تسيطر على بحار العالم ومسارات التجارة العالمية.
في العالم الثالث، وبهدف قطع الطريق على الشيوعية في المستعمرات السابقة، وتحسباً لصعود الشيوعية، قامت الولايات المتحدة بتسريع عمليات الإصلاح الزراعي وتصفية الأنظمة الإقطاعية في المستعمرات السابقة، وسهّلت وصول الجيش بهدف ضبط هذه الدول التي كان من الواضح أنها ستمر بمخاضات عميقة من الاضطراب في طريقها نحو الحداثة.
لكن بسقوط جدار برلين نشأ وضع جديد. وعاد السؤال من جديد: من هو العدو الآن، وأي نظام جديد سيحل محل القديم؟ إضافة لكل ذلك ظهرت حقائق جديدة.
أولاها: أن الدول والكتل الاقتصادية المنافسة، وأولاها الصين وغيرها، أصبحت تستفيد من أمان العولمة وحريتها من دون أن تدفع كلفة ذلك، في حين أنها تصعد منافستها ضد الولايات المتحدة وعلى حساب أمنها القومي. الصين كانت المستفيدة الأولى من انهيار الاتحاد السوفياتي، لما أتاحه ذلك من فتح للأسواق العالمية تحت حماية البحرية الأميركية ونظام العولمة الأميركي، لتصبح الصين ورشة العمل الصناعية الكبرى للعالم أجمع.
منذ هذه اللحظة، لم تعد الولايات المتحدة ترى أن النظام العالمي الجديد الذي أسسته هي، يعمل في مصلحتها. وها هي الصين ثم أوروبا تحاول بناء نظام نقدي منافس للدولار الخ… وها هي روسيا تحاول إعادة تأكيد نفسها بسياساتها الانتهازية في ملء الفراغ، وبعرض عضلاتها برغم كونها لا تعدو أن تكون دولة نامية تعتاش على تصدير الخامات.
الحقيقة الثانية تكمن في تراجع موقع مجمل الدول المصدرة للمنتجات الصناعية والمواد الخام، بما فيها النفط مقابل اقتصادات الدول ذات الأسواق القوية. وفيما يرتبط اقتصاد الولايات المتحدة بالتصدير بمقدار نحو 12% فقط من الدخل القومي الإجمالي، وحيث يشغل التبادل مع كندا والمكسيك 6|% ومع باقي العالم بأسره 6%. فإن معظم تلك الدول المنافسة للولايات المتحدة تعتمد على التصدير بما يتراوح بين 45 و60% من ناتجها القومي مثل الصين وألمانيا وروسيا.
هذه الدول في ظل التراجع الكبير في قيم البضائع المادية والمواد الخام، صارت هي التي تعاني من الأزمة. وباختصار، فمع تراجع حصة السلع المادية الخام والصناعية المتوسطة لمصلحة النتاجات الفكرية، أصبح المستهلك والشاري المتقدم أقوى بكثير من البائع.
وعلي سبيل المثال، وفي ظل الاقتصاد العالمي الراهن، لا يكون السوق قوياً بعدد السكان بل بمستوى التنمية والرفاه العام. فنيويورك وحدها مثلاً تستهلك أربعة عشر ضعفاً مما تستهلكه أفريقيا بأسرها. ليصبح الصراع على الأسواق ليس في العالم الثالث بل في العالم الأول.
الحقيقة الثالثة: في هذه الفترة تراجعت المناعة الاستراتيجية للولايات المتحدة، وسادت حالة من الاسترخاء امتدت من رئاسة بوش الابن الى المرحلة الثانية من حكم أوباما. فها هي الصين تتلصص على التكنولوجيا وبراءات لاختراع الأميركية، وها هي روسيا تقرصن الخ.. من ملامح ترهل الاستراتيجية الأميركية. وها هي منافسات الولايات المتحدة تحاول إخراجها من عقر خلفيتها الاستراتيجية ومصالحها في بحر الصين، وها هي تعمل على تنمية خطط بحرية وبرية توسعية. وها هي روسيا تسعى للسيطرة على ممر أنابيب النفط من بحر قزوين الى شمال العراق وسوريا، وصولاً الى ميناء جيهان.. الخ ..الخ وبدأنا نلاحظ بوضوح أثر اللامبالاة الأميركية بمصير النظام العالمي الراهن ومصير مؤسساته.
في مواجهة هذه الحقائق، ومثلما تحتاج السفن الضخمة لزمن طويل للانعطاف، استغرقت الولايات المتحدة أكثر من عقدين، كيف تعيد إنتاج استراتيجياتها الجديدة. وكان عليها أن تحضّر لفك ارتباطها بهذا النظام، كما فعل ترامب بالانكفاء على عالم مصغر، نجحت في تشكيله حولها، سواء من خلال تحالف استراتيجي كوني من جهة مع دول الـ”نافتا”، ومن جهة أخرى مع كل من بريطانيا وأستراليا واليابان، وبهدف إعادة تشكيل النظام العالمي من جديد بما يضمن هيمنتها الكونية كدولة وحيدة عظمى في إطار عالم متعدد الأقطاب من دول كبرى. ويمكن الآن أن نستشف أن هذه هي النظرة التي يقارب فيها الرئيس بايدن استراتيجيته الحديثة.
المنطق السائد الآن في المؤسسات الأميركية هو أن أفضل سبيل لمواجهة الخصوم والمنافسين لا يكون بالانكفاء بل بإعادة صوغ نمط جديد للعولمة عن طريق شراكات استراتيجية واقتصادية نوعية لردع الخصوم وإكراه المنافسين.
وفي حين أن وهماً ساد لفترة بأن المصالح الاقتصادية المباشرة وليس الجيو – استراتيجيا عامل حاكم في العلاقات الدولية في ظل ضمان الولايات المتحدة لأمان التجارة العالمية، فإن بدء الولايات المتحدة التخلي عن تقديم الغطاء الاستراتيجي الكوني (منذ بدء القرصنة في المحيط الهندي وفي مضيق “ملقة”) يوضح الآن بجلاء أن الجيو – استراتيجيا تعود لتطفو على وجه العلاقات الدولية بصفتها العامل الحاسم بامتياز في رسم هذه العلاقات، خاصة في ظل حالة من عدم اليقين بعد انهيار مقومات الاتفاقيات المؤسسة لنظام العالمي من فرساي إلى يالطا.
من المفيد هنا أن نلاحظ أن غياب الحروب الكونية وغياب الصراعات بين الدول الكبرى على الموارد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن إلا مرحلة شاذة في التاريخ البشري، إذ كانت الموارد ومصادر الطاقة هي الدافع الأكبر للصراعات.
والآن، ومع تطور الاقتصاد العالمي ومع استقلال الولايات المتحدة في العديد من الموارد، بما فيها مصادر الطاقة، تصبح أميركا أقل ميلاً بكثير للتدخل المباشر في مصائر دول العالم لضمان ولائها، إلا في إطار تحالفاتها المركزية. والأهم في هذه الاستراتيجية هو ضبط المنافسين وإكراه الخصوم.
من الناحية الاستراتيجية الكونية، تفكك الولايات المتحدة التزاماتها البرية وتعزز هيمنتها البحرية والجوية – الفضائية. وبهدف تحقيق سلمها الأميركي، تجنح الولايات المتحدة الآن الى خلق وتعزيز منظومات أمن وسلام إقليمية متعددة الأقطاب متنافسة، ولكن ذاتية التوازن ولا تحتاج إلا لأقل قدر من الانخراط الأميركي المباشر، لتنتج دولاً إقليمية موالية ومنتدبة تعمل بغطاء ودعم أميركيين مباشرين، مقابل ردع القوى التي تعتبرها الولايات المتحدة خصمة لها.
في المقابل، لا تعمل الولايات المتحدة من منطق استبعاد المنافسين (مثل الصين) بل من منطق تطويعهم على القبول بحصتهم في تقسيم العمل الاستراتيجي الإقليمي.
في نهاية الأمر، تحتاج الولايات المتحدة الى عالم مقسم الى أقاليم يسود فيها حلفاء متنافسون يكونون بمثابة مرابعين في إطار منظومات إقليمية للأمن والسلام لتدبّر أمورها وتخوض حروبها على طريق الوصول الى توازن إقليمي مستقر نسبياً.
أما بالنسبة الى الدول النامية، فمع تراجع موقع الموارد المادية الأولية وانهيار أسس الاقتصاد السياسي لرأسمالية الدولة الاحتكارية المحسوبية، يصبح الريع الذي يعتاش عليه نموذج رأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة شحيحاً، ويتهاوى موضوعياً هذا النموذج الاقتصادي القائم على تصدير المواد الخام أو الصناعات البسيطة أو المتوسطة أو تصدير البلطجة. ذلك أن شح الريع يجعل الرشوة الاجتماعية الضرورية لحفظ التوازن الاجتماعي في اقتصاد ريعي أمراً مستحيلاً في أي دولة. وسيلحق انخفاض الريع السهل تبديلاً عميقاً، ليس فقط في بنية الدولة بل في بنية العقد الاجتماعي وفي البنية العميقة للمجتمع والنخب ذاتها.
وحين يطال التبدل العاصف بنية الدولة ونموذجها الاقتصادي والاجتماعي لإقليم معين تزامناً مع تداعي النظام العالمي الدارج، وإلى حين يستتب الجديد البازغ، تتداعى الدول وتنفجر الصراعات في سياق قديم فاسد يموت، وجديد لم يولد بعد. ستحصل حروب أهلية، وإقليمية على درب إعادة هيكلة مجمل العلاقات الدولية. هذا الأمر يندرج على كل دول الشرق الأوسط وسيستتبع إعادة هيكلة نمط وحصص توزيع الثروة والسلطة.
وفي هذه الظروف، هذا التحول هائل لا يوقفه تدخل روسي ولا إيراني، ولا يمكننا الكف عن التفكير في عمق تداعياته.
المصدر: النهار العربي