ربما نظرة مبسطة منّا إلى نشوء الكون وبدايات الخلق تكفي لكي تضعنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل ولا الدحض، وهي أنّ التطوّر والتغيّر والتحوّل سمات ملازمة لتشكّل الوجود، ولازمة لبقائه واستمراره، بل إنّ التضادّات والتناقضات في تشكيل الطبيعة وبنيتها إنما هي قوانين ثابتة وأصيلة تضمن حتميّة استمرار التغيير وتؤكد ضرورته لاكتمال دورة الحياة وتجددها. إنّه الصراع الأزليّ المنتج عبر تتابع الفصول وتعاقب الليل والنهار إذ لا مكان للجديد دون أن يخلي القديم مكانه، ولا مناص من الموت لحدوث الولادة ولكي تنتصر الحياة.
لقد انطلق مركب التغيير مع الموجة الأولى للحياة البشرية على سطح كوكب الأرض، وكانت الحاجة إلى الحماية من مخلوقات الطبيعة وأخطارها، وإلى تأمين سبل العيش وتحسينها، واتقاء العوامل الطبيعيّة المختلفة دافعاً لابتداع أفكار ومبادئ ووسائط وأساليب مكنته من البقاء والتكاثر والارتقاء بشروط عيشه، فكان أن استعمر الأرض واستثمر كلّ ما عليها وفي جوفها، وهو في طريقه لاستعمار السماء والكواكب.
إنّ نشوء المجتمعات الإنسانية والحاجة إلى تنظيم أفرادها واستثمار جهودهم ومقدراتهم، وتوظيفها بما يعود بالفائدة والخير على المستويين الخاص والعام، وتهيئة الظروف والمناخات المناسبة للإنتاج والإبداع، ولممارسة العلاقات الطبيعية المختلفة بين الأفراد والجماعات، وغير ذلك كثير من الأسباب التي ولدت الحاجة إلى ظهور النظم والقوانين التي سرعان ما تطورت لينبثق عنها مفهوم الدولة الوطنية، أو الدولة/الوطن ككيان يمنح أعضاءه صفة المواطنة التي تعني لحاملها سلّة من الحقوق والواجبات في إطار تعاقديّ صريح أو مضمر.
أخطر ما واجه الإنسان في محطات مسيرته الظافرة نحو السموّ والرقيّ، وفي بناء حضارته المسيّجة بالقيم الإنسانيّة الخيّرة هو الإنسان. فعقليّة الجمود والثبات لدى البعض، ممن انعدمت آدميتهم أو كادت، راقت لهم فكرة السيطرة على منجزات المجتمعات، والاستئثار بخيراتها، وأراد للحياة أن تتوقف عنهم عند محطة ما، وأن يكونوا هم وأقرانهم وشركاؤهم الركاب الوحيدين في مركبة المستقبل، فكان أن لجأوا إلى العنف والقمع لاستئصال النزوع الفطريّ لدى الإنسان للحرية والإبداع والحياة الكريمة التي تليق بالإنسان.
إنّ أشباه البشر الذين يختزلون عظمة الحياة في جبروتهم المزيّف، وفي ذواتهم المريضة المتورّمة يظنون أنهم قادرون على المضيّ أبداً في تعطيل حركة التاريخ وقتل الشموس المشرقة بالحبّ، وفي اعتقال إرادة الانعتاق من ظلمهم وظلمة أرواحهم المدنّسة، ينسون أو يتناسون طبيعتهم المؤسسة على الضعف أمام قوّة الحقّ، وأنهم مفلسون ومبلسون لا يملكون حتى ما بين أيديهم ممّا اغتصبوه وسرقوه، وأنّ الوديعة التي استودعها خالقهم لديهم واستأمنهم عليها ستنكرهم وتتبرّأ من خياناتهم ومن وحشيتهم، وستغادرهم غير آسفةً حين تجتثّهم وتطيح بهم وبأوهامهم معاول البناء والنهوض.
إننا أمام عصر مذهل يشهد ثورات مركّبة شديدة التسارع والتعقيد، لا تستثني أيّاً من ميادين العلم والمعرفة والآداب والفنون، كما يشهد ثورات في التقنيات وفي الأفكار والقوانين والأساليب والآليات، لكنّ أهم هذه الثورات هي ثورة الشعوب على ذاتها الخانعة وعلى الطغاة والمستبدين الذين يذهبون بهذا الكون نحو الدمار والفناء.
إنّ الوعي بالذات والآخر وتطوّر العلوم، وتمكن العقل البشريّ من فهم الكون ونواميسه، واكتشاف الكثير من أسرار الطبيعة وتفسير ظواهرها المختلفة، كذلك ظهور الأنبياء والرسل والمصلحين أدى إلى نزع القداسة عن المخلوقات، وإلى تحطيم الأوثان سواء كانت من تمرٍ أو بشرٍ أو حجر.
ما حققه الإنسان من إنجازات ثقافية وحضارية عبر تاريخه الشفويّ والمكتوب يدفعه لكي يمتلك ما يحتاجه من ثقة وقدرة للمضيّ في التغيير، وفي تأدية رسالته التي وجد لأجلها للوصول إلى عالم مترف بالخير والحقّ والجمال.
المصدر: صحيفة إشراق