نشر الأستاذ أيمن عبد النور مقالة بعنوان “لا بدّ من خطة أميركية شاملة لسوريا” في صحيفة الشرق الأوسط، البارحة في 27 آذار/ مارس 2021، وهي مقالة مهمة كونها تحاول وضع تصور للحل في سورية انطلاقًا من الواقع الراهن من جهة، وتحاول مخاطبة الآخر، أميركا، من جهة أخرى. لكنني من جهة أخرى أختلف مع منهجها، وأرى بعض المخاطر التي قد تترتب عليها في حال اعتمدت، على الرغم من إدراكي سلفًا أن كاتب المقالة لا يقصد ذلك، وتأتي ملاحظاتي في سياق تعميق الحوار والخروج بخلاصات يمكن البناء عليها.
أولًا؛ عربات جغرافية/ قومية ودينية؟!
شبّه الأستاذ أيمن عبد النور سورية في مقالته بقطار مؤلف من عدّة عربات؛ “كل عربة تتأرجح خلفه مليئة بمجموعة كبيرة من المشاكل الخاصة بها… وكل عربة لها خصوصيتها من قبل الفاعلين والمؤثرين المحليين والإقليميين والدوليين، إضافة إلى المشاكل الاقتصادية والحساسيات الدينية”.
هناك خشية أن يُفهم من تعبير “العربات” في هذا السياق المعنى الذي يشير إلى أن كل عربة من عربات القطار تمثِّل منطقة جغرافية في سورية، ولكل منطقة خصوصيتها من حيث طبيعة مشكلاتها والمتدخِّلين والفاعلين فيها، وهذا التقسيم الجغرافي ليس بعيدًا، استنادًا إلى واقع الحال، عن التصنيف على أساس قومي/عرقي أو على أساس ديني طائفي. وهذه نفسها إحدى نقاط الخلل الرئيسة في رؤية الإدارات الغربية ومراكز بحوثها إلى المشكلة السورية، ومن الطبيعي أن تقترح وفق رؤيتها هذه تجزيء المشكلة السورية إلى مشكلات أصغر توهمًا بتسهيل حلّها. المفارقة هي أن هذه الرؤية التجزيئية للحلّ ليست جديدة، وهي ما طبقتها أميركا فعلًا في سورية خلال السنوات الماضية؛ تعاملت أميركا مع كل منطقة على حدة، ونذكر جيدًا كيف تعاملت في جنوب سورية القريب من “إسرائيل”، وكيف تعاملت في شمال شرق سورية مع “داعش” و”قسد” بمعزل عن أي رؤية شاملة لسورية. هذه الرؤية التجزيئية لم تفلح سوريًا، لكن قد تكون أفلحت أميركيًا.
سيحمل تطبيق هذه الرؤية خطرًا كبيرًا يتمثل بالتعامل مع ما هو موجود على أساس أنه واقع طبيعي ينبغي لنا التأقلم معه بعد عشر سنوات، وفي أحسن الأحوال يمكن أن ينتج من هذا التجزيء للمشكلة السورية بهذه الطريقة في المآل اتحاد فدرالي إجباري بين كيانات عرقية وطائفية، اتحاد هش وقابل للانفجار بين مناطق تقع كل منها تحت نفوذ دولة أو عدة دول.
إن الإقرار بخصوصية كل منطقة من حيث العلاقات الإقليمية والدولية، وتثبيتها، والانطلاق منها لحل مشكلات كل منطقة/عربة يعني عمليًا أن لكل عربة علاقاتها الإقليمية والدولية الخاصة بمعزل عن بقية “العربات” السورية، أو يعني التأقلم مع واقع أن كل منطقة/عربة تخضع لنفوذ إقليمي دولي بمعزل عن المناطق الأخرى، ويعني في المآل تحطيم أحد أهم عناصر وجود الدولة السورية المستقبلية؛ أي السياسة الخارجية الواحدة.
ثانيًا؛ الحلّ الكلّي
يقول الأستاذ أيمن في مقالته: “لا يمكن النظر إلى سوريا بعين واحدة واختزالها بأنها فوضى واحدة ضخمة، فكل عربة من هذه العربات تتطلب رؤية خاصة بها لحلها، وبالتالي فالحل الكلي هو مجموعة متعددة من حلول مختلفة كليًا”.
نعم، كل عربة من العربات هذه تحتاج إلى رؤية خاصة بها، وهذا من طبيعة الأمور، لكن في إطار رؤية كلية، ومن دون ذلك لن تثمر أي رؤية جزئية أو خاصة، بحكم ارتباط المشكلات أو العربات كلها بقطار واحد. أما الحل الكلّي نفسه، فلا يمكن أن يكون حلًا تجميعيًا للحلول الخاصة بالعربات كل منها على حدة، فهذا ليس من طبيعة الأمور؛ لا تسير الحياة الواقعية على هذه الطريقة، لأن أي تجزيء للمشكلة الكبرى هو في الحقيقة تجزيء افتراضي، بينما تكون المشكلات كلها واقعيًا مرتبطة ببعضها بعضًا بطريقة أو أخرى. هل يمكن حلّ مشكلة أهالي الغوطة المقيمين حاليًا في عفرين أو هل يمكن حلّ مشكلة أهل عفرين الذين هُجِّروا إلى مناطق أخرى من دون حلّ المشكلة السياسية في دمشق؟!
لذلك ينبغي أن يكون هناك حلٌّ كلي أعلى يجعل الحلول الخاصة قابلة للتطبيق من جهة أولى، ومن جهة ثانية يمنع التأقلم مع المقتضيات الخاصة بكل عربة/منطقة إلى درجة تجعل كلًا منها تغني على ليلاها أو تسير على سكة لا تتقاطع مع سكك العربات الأخرى على أقل تقدير، مع أن طموحنا في المآل هو أن تسير العربات كلها على سكة واحدة لا تمنع الاعتراف بخصوصياتها؛ سكة الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. إن وجود رؤية كلية استراتيجية مستقبلية هو ما يسمح بإعادة لملمة العربات والحلول الجزئية الخاصة بها في قطار متماسك قابل للحياة.
لا تصبّ هذه الرؤية في إطار الترفع عن الأعمال الجزئية أو إنكار أهميتها، بل على العكس لا بدّ من إيلائها اهتمامًا كبيرًا، لكن بالتوافق والتناغم مع رؤية كلية لسورية، وإلا ستصبُّ أعمالنا الجزئية في اتجاهات تجعل اجتماعها معًا لتشكيل لوحة سورية قابلة للحياة أمرًا مستحيلًا. أصلًا أميركا
ثالثًا؛ استراتيجية وجدول زمني مختلفين لكل عربة
جاء في المقالة “تتطلب كل عربة – نظرًا لاختلاف الظروف التي مرت بها واختلاف المحن والفاعلين – نهجًا مختلفًا واستراتيجية مختلفة وفريقًا منفصلًا لحل المشكلات مرتبطًا بجدول زمني خاص لكل عربة. علاوة على ذلك، تحتاج كل عربة لاعبين وممثلين مختلفين من دول أجنبية للجلوس على طاولة القرار الخاصة بها.”
معنى هذا أن كلَّ طرف سوري محلي سيلتقي ويتباحث مع مجموعة إقليمية دولية مختلفة عن الأخرى، وسيجري عمليًا الاعتراف بموازين القوى المحلية الحالية على الأرض كمنطلق للحلّ الجزئي، أي على مستوى العربة الواحدة. ما ضمانات أن تكون القوى السورية المحلية صاحبة الحضور على الأرض متوافقة مع بناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة؟ لنتخيل أن (قسد) ستحلّ مشكلاتها مع ممثلين إقليميين ودوليين لوحدها؛ لم تستطع (قسد) الاتفاق مع المجلس الوطني الكردي بضغط أميركي، فهل ستستطيع الاتفاق مع بقية أهل المنطقة؟! وهل سيصبّ الحل الجزئي على مستوى (العربة القسدية) في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية؟
الأمر نفسه ينطبق على بقية المناطق أو العربات؛ عربة الشمال الغربي السوري، وما تحمله من معارضة يغلب عليها التناغم مع السياسة التركية. هنا لو تركت الأمور للمتحكمين في هذه العربة لأنتجوا حلًا قريبًا من إنشاء كانتون إسلامي مرتبط بالسياسة التركية لا أكثر.
لا يمكن إنتاج حلول جزئية أو خاصة بكل عربة من دون الاتفاق على الخطوط العامة الاستراتيجية التي تحكم القطار كله، وإلا ستكون الحلول الجزئية أو الخاصة ليست أكثر من الإقرار بموازين القوى داخل كل عربة، وإنتاج نظم محلية متصارعة لا يجمع بينها جامع، ولا تعبر عن أكثرية السوريين بقدر ما تعبر عن مصالح المتنفذين في كل عربة أو منطقة.
رابعًا؛ رأس النظام
يؤكد الأستاذ أيمن أن القطار “سيستمر في الانزلاق إلى الهاوية إذا لم نغير السائق (بشار الأسد) فكل تلك العربات لن تصل إلى المحطة الصحيحة أبدًا”.
في الحقيقة، لم يعد الأسد وحده متحكمًا في سورية، وفي عربات القطار كلها، على الرغم من أنه ما زال أقوى الجميع على الساحة السورية، ولا تمكن إطاحته من دون اتفاق دولي إقليمي شامل، وليس عبر اتفاق أميركي روسي فحسب. مع ذلك، أصبح هناك اليوم الكثير من السائقين، ومعظمهم يسير بعربته على هدي مصالح ضيقة أو بدفع من دول إقليمية، وهذه كارثة أكبر من كارثة الاستبداد. التشظي شقيق الاستبداد. يعني هذا بوضوح أن رحيل رأس النظام السوري شرط لازم لوقف التدهور لكنه ليس كافيًا. وينبغي لنا ليكون الأمر ذا صدقية وجدوى المطالبة بإنهاء العمل المسلح كله، والميليشيات الموالية والمعارضة على حد سواء. وهذه الخطوات تصبّ في إطار الرؤية الكلية التي ينبغي أن تطبق على جميع العربات.
خامسًا؛ اتفاق سلام الآن؟!
جاء في المقالة “نريد الاستفادة من المشروع الكبير لإعادة الإعمار في سوريا، وحل الصراع السوري – الإسرائيلي بسرعة بإنهاء الاحتلال وتوقيع اتفاق سلام؛ حتى نتمكن من تضمين مرتفعات الجولان في هذا المشروع الضخم لتكون واحة تكنولوجية وخدماتية لجميع دول المنطقة”.
في الحقيقة نحن سنخسر في أي اتفاق سلام يمكن أن يُعرض على الطاولة في اللحظة الحالية، وربما يكون الجولان ثمنًا يدفعه النظام لقبول بقائه أو ثمنًا تدفعه أطراف معارضة مقابل اتفاق على رحيل النظام. في الحالين ستخسر سورية ويخسر السوريون. كيف سيكون هناك اتفاق سلام اليوم من دون وجود الدولة الوطنية الديمقراطية، ومن دون وجودة إرادة وطنية سورية يعبِّر عنها برلمان منتخب ديمقراطيًا؟ يعني هذا أن المطالبة بالإسراع في عقد اتفاق سلام عادل وشامل اليوم لا محل له من الإعراب.
هناك حقيقة ينبغي لنا أخذها في الحسبان؛ القضية الفلسطينية هي إحدى قضايا الوضع الداخلي السوري، كونها متمفصلة معه على المستوى الديموغرافي على أقل تقدير، وهي إحدى قضايا السياسة الخارجية المستقبلية الأساسية بحكم وجود محتل واحد يحتل فلسطين والجولان معًا. لكن لا شك في أنها تحتاج إلى خطاب يتجاوز المتاجرة بها من جهة، وردة الفعل الساذجة على المتاجرة بها من جهة ثانية؛ خطاب يعتمد السياسة والسلام خيارًا استراتيجيًا على قاعدة الحقوق وقرارات الشرعية الدولية.
لا يوجد عاقل يقول إنه يريد الحرب ولا يريد السلام، حتى عندما يذهب إلى الحرب ينبغي الاستمرار في الحديث عن السلام. لكن أيضًا لا يوجد عاقل يذهب في اتجاه بناء سلام مع محتل من دون استعادة أرضه. سنظل نتحدث عن السلام دائمًا وأبدًا، في الداخل والخارج، لكن في المقابل إذا كان الآخر يريد السلام فإنه يعرف ما عليه فعله.
سادسًا؛ ولايات بدلًا من المحافظات
تؤكد المقالة أيضًا ضرورة “تغيير نموذج المحافظات المعتمد حاليًا إلى «ولايات»؛ مما يتيح لحكام تلك الولايات المنتخبين صلاحيات كبيرة للعمل على خطط التنمية الاستراتيجية مع أي دولة ستمول وتنفذ الكثير من المشاريع بتلك الولاية، سواء كانت من دول الخليج أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو اليابان أو تركيا”.
في الحقيقة ليست المشكلة في تغيير الاسم من “محافظات” إلى “ولايات” أو إلى أي اسم آخر. تكمن النقطة الرئيسة في طبيعة الصلاحيات التي تُعطى إليها. لا أدري كيف تمكن المحافظة على سورية مع الاعتقاد بأن من حق كل جزء من سورية أن يبني علاقات اقتصادية مع دول متعددة بمعزل عن الأجزاء الأخرى، ما يعني أننا سنكون أمام مناطق نفوذ إقليمية ودولية اقتصادية في سورية، وبالضرورة ستكون لها تعبيراتها وتأثيراتها السياسية. هذا ما قصدته بضرورة وجود تكامل بين الرؤية الكلية والرؤى الجزئية؛ السياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية المتعلقة بالقطاعات الاستراتيجية هي من اختصاص الدولة وليس الولايات، إضافة إلى وجود الجيش الوطني الواحد، والدستور الوطني الذي يعبِّر عن العقد الاجتماعي.
سابعًا؛ الصراع الأميركي الإيراني
في سبيل إغراء أميركا بأداء دور أكبر في سورية تقول المقالة “سيكون للولايات المتحدة نفوذ إضافي في محادثات إيران المستقبلية، بالنظر إلى تضاؤل وجود طهران في سوريا.”
أعتقد من جهة أولى، بأنّ ليس من السهل إنهاء النفوذ الإيراني في سورية في وقت قريب، وهذه نقطة رئيسة تتمثل بأن الحلّ اليوم يعتمد على اتفاق دولي إقليمي وليس على إرادة الولايات المتحدة وحدها، ما يعني أن الأخيرة ستذهب إلى محادثات مع إيران قبل أن يطرأ تعديل ذي شأن على نفوذ إيران في سورية. من جهة ثانية، لا أعتقد أن مشكلتي الملف النووي الإيراني والكارثة السورية متساويتان في الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ يعني هذا أن الولايات المتحدة الأميركية مضطرة إلى، أو ستفضِّل، الذهاب إلى حلِّ مشكلتها مع إيران قبل المساهمة في وضع المسألة السورية على سكة الحلّ، وربما تكون سورية على مائدة المفاوضات إن وسعت أميركا إطارها.
ثامنًا؛ خلاصة ورؤية أخرى
تردّد كثيرًا في الآونة الأخيرة أن مقربين من الإدارة الأميركية قد طلبوا من معارضين سوريين، على الأغلب بصورة فردية، إنتاج رؤية للحل في سورية، وكأن لدى أميركا فقر من حيث المعرفة بأحوال سورية أو نقص في الفرق التي تنتج الرؤى الاستراتيجية والآنية. الحقيقة أن المصلحة الأميركية كانت تقتضي، خلال العقد الماضي، ترك سورية للحرب والفوضى، ومن ثمّ لم يملأ الآخرون سورية إلا عندما تيقّنوا من ابتعاد أميركا أو من عدم وجود مصلحة أميركية مباشرة في الحلّ، لكن هذا لا ينفي مسؤوليتنا كسوريين من حيث إخفاقنا في مخاطبة العالم، وأميركا في مركزه، بخطاب وطني مركزي متوافق مع قيم العصر.
ربما بدأت أميركا اليوم بالتفكير في الفوضى التي كان لها نصيب كبير في إنتاجها، لكن هذا إن حصل فسيكون من خلال رؤية شاملة للمنطقة لا تتعلق بسورية وحدها، وهذه هي عادة الدول الكبرى. هل نكف عن مخاطبة أميركا والعالم من أجل حلٍّ سياسي في سورية؟ بالطبع لا، لكن علينا أن نخاطبهم من دون أوهام؛ لأن المصالح والأولويات الأميركية قد لا تتقاطع، في كل لحظة، مع مصالحنا وأولوياتنا بالضرورة. والأهم من هذا كله هو أن نخاطب أميركا والعالم بوصفنا سوريين أو الجماعة الوطنية السورية التي بنت تعبيرها السياسي الذي يمثِّل رؤيتها وتطلعاتها، ومعنى هذا هو أن الكرة في ملعبنا، وهي كانت كذلك دائمًا، لإنتاج مركز سياسي وطني ديمقراطي يمكن أن يستمع إليه العالم، وفي الأحرى سيستمع إليه إن نجح في جعل السوريين يستمعون إليه.
أما بالنسبة إلى رسم رؤية إلى الحل يمكن أن تلقى اهتمامًا أميركيًا ودوليًا، فهذا يحتاج إلى حوار جماعي طويل وتفصيلي، لكن يمكن القول إنه لا غنى عن الرؤية السياسية الشاملة للحلّ في سورية، تلك التي تثبِّت بعض الأساسيات العامة، ومن ثمّ يمكن بناء استراتيجيات جزئية أو خاصة في كل منطقة انطلاقًا منها، مع أن المأمول هو النظر إلى المشكلات السورية المتراكمة بطريقة أخرى، أي على أساس نوعيتها أولًا؛ سياسية واقتصادية واجتماعية، ومن ثمّ الانتقال إلى المشكلات الخاصة بكل عربة من عربات قطارنا
المصدر: المدن