اتخذ المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي قبل هذه اللحظة بقرن كامل من الزمن، تقريباً، وتحديداً في 14 مارس (آذار) 1921، قراراً “حول استبدال نظام مصادرة الغذاء [المحاصيل] بضريبة زراعية”. وسمح ذلك للفلاحين الروس بأن يقدموا للدولة ما يتراوح بين 25 و40 في المئة من كل ما كانوا ينتجونه بدلاً من أن يتعرضوا على الدوام للسلب على يد أشخاص مسلحين يصادرون محاصيلهم من أجل “الثورة الدائمة [المزمنة]”.
ومنذ ذلك صار في وسع القرويين أن يبيعوا ما يتبقى من محاصيلهم أينما أرادوا بسعر السوق. هكذا أدى التغيير، الذي أطلق عليه فلاديمير لينين “السياسة الاقتصادية الجديدة”، إلى استعادة التجارة الحرة، واعادة تثبيت الملكية الخاصة، وإلغاء تأميم الشركات الصغيرة، والسماح للشركات الأجنبية بمزاولة العمل في روسيا السوفياتية، وجعل الروبل عملةً قابلة للتداول والصرف، وذلك في أقل من عام واحد.
وطُرحت السياسة الجديدة في وقت صعب في حينه: فقبل مجرد أسبوع واحد، أظهرت انتفاضة كرونشتات [بدأت في 1 مارس 1921 في المدينة التي سمي التمرد باسمها]، أن بحارة الأسطول، وهم أشد أنصار البلاشفة إخلاصاً لهم، بدأوا يبتعدون عن قيادة الحزب. وكانت الحاجة إلى التغيير ملحة، وتمخض المسار الجديد عن نتائج مشجعة، فقد قفز معدل النمو السنوي بين 1921-1926 إلى 25.4 في المئة، ومع حلول 1927 تجاوز الإنتاج الزراعي المستويات التي كان قد بلغها قبل الحرب العالمية الأولى، وكانت الصناعة التي دمرتها الحرب تنهض من جديد. ونمت التجارة الخارجية بين 1921 و1927 بنسبة 36 في المئة، كما أن وتيرة تطور بعض القطاعات الاقتصادية الأخرى كانت أسرع.
في هذه الأثناء، كان فشل “السياسة الاقتصادية الجديدة” محتماً منذ بدايتها. فمن ناحية أولى، تعامل معها البلاشفة كما لو أنها كانت “تراجع مؤقت” عن هدفهم الأساسي المتمثل ببناء اقتصاد مركزي تسيطر عليه الدولة، لذا بدأت “الصفقة” التي أبرمت مع الفلاحين تواجه الفشل في وقت مبكر من عام 1923، عندما بدأت الحكومة بخفض أسعار الجملة للمنتجات الزراعية، وذلك في وقت أخذت فيه قيمة السلع الصناعية تتزايد.
وبحلول عام 1927، وبينما تعطلت إمدادات الحبوب، كان المصير الذي ينتظر المشروع قد بات واضحاً. ومن ناحية ثانية، لم يكن المقاولون الفرديون [في القطاع الخاص] قادرين على إنشاء الصناعة الثقيلة التي كان الشيوعيون يحلمون بها. وبينما زودت الشركات المتوسطة والصغيرة الأكثر ديناميكية السوق الاستهلاكية بالإمدادات المطلوبة، تباطأت، في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، حركة النمو الصناعي، جراء محدودية طلب المستهلكين.
والنتيجة صارت معروفة [لا تخفى]. ففي عام 1929، اعتمدت الخطة الخمسية الأولى، وبدأت عمليات التأميم، وسرعان ما اختفى اقتصاد السوق في الوقت الذي حل فيه رجال الشرطة السرية وبيروقراطيو الحزب الحاكم محل المهندسين والمديرين.
لكن قد يلمس المرء، حين تناول الطريق الذي سلكته روسيا في تلك السنوات، مدى التشابه بين ما حدث حينذاك وما شهدته البلاد بعد 80 عاماً. ففي عام 2000، وبعد 8 سنوات من الانهيار الاقتصادي والفقر والتضخم المفرط، عادت الأمور مع الرئيس المنتخب حديثاً، فلاديمير بوتين، إلى مجاريها إلى حد ما في البلاد. وطرحت الحكومة معدل ضريبة دخل ثابت ومنخفض، وأنشأت سوق صرف العملات الأجنبية، كما أنها ذهبت إلى حد الإعلان عن رغبتها بتحويل الروبل إلى عملة احتياط. وأدى التحرير الاقتصادي [رفع القيود التجارية] وانتظام الأمور إلى ارتفاع حجم ومبادلات سوق الأوراق المالية بمعدل بلغ 5.5 مرات بين عامي 2000 و2005، فيما تطور، إلى حد كبير، كثير من الصناعات التي كانت عملياً غير معروفة في الاتحاد السوفياتي السابق وفي مرحلة ما بعد سقوطه.
هكذا، اتخذ مديرون أجانب ممن كانوا يتقاضون أجوراً عالية من روسيا موطناً ثانياً لهم، بينما ارتفع معدل الدخل الفردي الحقيقي 2.5 مرة مع حلول عام 2007. حتى إن المصالحة الرمزية بين روسيا السوفياتية وألمانيا، وهما الطرفان الخاسران في الحرب العالمية الأولى، تكررت على نحو ما من خلال التحالف غير المتوقع بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة، بوصفهما اثنتين من “الضحايا البريئة” للإرهاب الدولي.
ومع ذلك، كان ثمة أوجه شبه بين السياسات الاقتصادية الجديدة المعتمدة في القرنين العشرين والواحد والعشرين في بعض الجوانب. فقد كان الاقتصاد الزراعي القائم على الموارد، في عشرينيات القرن الماضي، هو ركن نهضة البلاد. وفي عام 2000 أدى قطاع الطاقة الدور ذاته نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، والتي تسببت في تدفق مبالغ نقدية كبيرة على روسيا. ووصلت عائدات تصدير النفط بين عامي 2000 و2004 إلى مستوى أعلى مما كانت عليه في عام 1999 بمعدل وسطي بلغ 33.5 مليار دولار أميركي سنوياً؛ وتزايد الفارق بينهما إلى 223.6 مليار دولار بين عامي 2005 و2008، وإلى 394 مليار دولار في الفترة الواقعة بين 2011 و2013.
وكما في السابق، تحقق النمو بفضل الصناعات المعنية بخدمة السوق الاستهلاكية (تجارة التجزئة والجملة، إنشاء الأبنية السكنية، الخدمات المالية، كما شكلت أيضاً بطبيعة الحال، الاتصالات والإنترنت 62 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي بين عامي 2000 و2007)، وفي الوقت الذي عانى فيه الاقتصاد الروسي الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت مصادر النمو شبه مستنفدة تماماً. وعلى نحو مشابه لما حدث في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن استئناف النمو في حد ذاته ضمانة للتحديث التكنولوجي.
وأعاد التاريخ نفسه مرة أخرى، فكما كان الوضع قبل 80 عاماً، حكم البلاد البيروقراطيون والعسكريون الذين لم يعترفوا بالأعمال كقطاع شريك للحكومة، وقد اندلع الصدام الأول بين السلطات الرسمية ورجال الأعمال مرة أخرى بعد ثلاث سنوات من إطلاق السياسات الجديدة. وكلف هذا الصدام أثرى الناس في البلاد ثمناً كبيراً فخسروا حرياتهم وثرواتهم، وينطبق هذا بشكل خاص على أصحاب شركة نفط يوكوس.
وبدءاً من ذلك الوقت فصاعداً، عمدت الحكومة، ولو بطرق أكثر حضارية مما مضى، إلى تعزيز مكانة كبريات الشركات الخاضعة لسيطرتها وبدأت بمراجعة “شروط الصفقة” من طريق زيادة العبء الضريبي، وتقليص صلاحيات السلطات المحلية في الأقاليم المختلفة، وخفض نفقات التعليم والرعاية الصحية، وأخيراً رفع سن التقاعد.
ومع حلول النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان من الواضح أن “نخبة السلطة” قد تشكلت، وبدأ الضغط على رأس المال الأجنبي للخروج من البلاد، كما ظهرت المؤشرات الأولى لاحتكار التجارة الخارجية (تذكروا المكانة الفريدة التي حازتها “غازبروم” كشركة مصدرة للغاز وهيئة “مكافحة للعقوبات”، كنموذج يحاكي تنظيم الاستيراد الحكومي)، وأرسى رجال الاستخبارات السابقون والعسكريون المتقاعدون ممن تحولوا إلى رجال دولة أسس سيطرة فعلية على التدفقات المالية الرئيسة.
وبالطبع، لا أحد يقول إن روسيا تواجه حالياً احتمال إجراء عمليات تأميم جديدة، أو حدوث هستيريا عسكرية أو قمع شبيه بـ”عمليات التطهير” التي قام بها ستالين. فمهما كان المرء نقدياً إزاء أداء الحكومة الحالية، فإن إطلاق مثل هذه التصريحات يجافي واقع الأمور. إلا أن العديد من أوجه الشبه بين اليوم والأمس ماثلة للعيان بوضوح.
وفي البدء، أود أن أقول إن “السياسة الاقتصادية الجديدة” لا تؤدي بطريقة أو أخرى إلى تحديث اقتصادي على نطاق واسع، فالتجارب العالمية تظهر أن الاختراقات الاقتصادية تتحقق من خلال قيادة حكومية قوية للاقتصاد تضع أهدافاً بعيدة الأجل نصب أعينها، وذلك كما حصل في اليابان، وكوريا، وتايوان، أو البرازيل. و”السياسة الاقتصادية الجديدة” خلال عشرينيات القرن الماضي، كـ”السياسة الاقتصادية الجديدة” في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت قادرة فقط على إعادة الاقتصاد إلى المستويات التي بلغها قبل الأزمة أثناء محاولته التأقلم مع متطلبات المستهلكين المتغيرة.
كان الفرق الأساسي بين ثلاثينيات القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هو أنه في الحالة الأولى ركز البلاشفة على إنجاز مستوى جديد من التنمية الاقتصادية بأي وسيلة كانت ومهما كان الثمن والتضحيات. أما أبناء الجيل الحالي من المسؤولين فيشعرون بالرضا التام عن الاستفادة من اقتصاد نموذجي لـ”العالم الثاني” [غير المتقدم]. وهذا ما تظهره المقارنة بين عسكرة المجتمع السوفياتي في أوائل أربعينيات القرن الماضي وبين ما يراه المرء من رسوم كاريكاتيرية عن الصواريخ الرائدة والعدد القليل من الدبابات والطائرات الحديثة التي عرضت على الجمهور في أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين.
أما النقطة الثانية المهمة فهي أن التقارب بين الاقتصادات السوفياتية/ الروسية وبين تلك العالمية، كان عبارة عن أضغاث أحلام [وهمية]. وظهر أن القبول بعناصر الثقافة الاقتصادية والتكنولوجية الغربية اتسم بالسطحية، ولم يؤثر بأي طريقة كانت في نسيج المجتمع أو مؤسساته. ففي ذلك الوقت كما اليوم، ينظر إلى العالم الخارجي فقط على أنه مصدر لرأس المال، والمعدات والتكنولوجيا، ولكن ليس كنموذج يحتذى على مستوى طرق الحياة كما أنه ليس بأي حال من الأحوال في مثابة المنارة للقيم الليبرالية الأساسية. وبينما صارت التوترات الدولية أكثر خطورة، ساد الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، وذلك على الرغم من أن درجة تأثيره على الاستقلال الفعلي عن العالم الخارجي، هو موضع تساؤل.
أخيراً، إن تقليص كل من نموذجي “السياسة الاقتصادية الجديدة” قد حدث في المقام الأول بسبب حاجة طبقة الـ”نومونكلاتورا” nomenklarura [البيروقراطية] الحاكمة لترسيخ سلطتها. وفي أيام الاتحاد السوفياتي السابق كان من الممكن تحقيق ذلك عبر انهيار أكثر راديكالية مما هو عليه الوضع اليوم، عندما يمكن للمرء فقط أن يتصرف بقدر من التساهل. بيد أن درجة السيطرة السياسية على الاقتصاد تتزايد باطراد، فيما نرى مزيداً من المحاولات الرامية إلى “مصادرة الأرباح الزائدة”، وتنظيم الأسعار، وتجميد مدخرات التقاعد، وفرض قيود على الاستيراد والتصدير لأنواع محددة من البضائع، وكثير غير ذلك.
وفي الوقت نفسه، من الواضح أنه في حين حددت الطبقة الحاكمة في عشرينيات القرن الماضي أهدافاً طموحة للبلاد وكانت مستعدة لتحقيق هذه الأهداف إلى حد ما مهما كانت الوسيلة، فإن النخبة الحالية تركز فقط على تحصيل فوائد اقتصادية محضة. ويؤدي هذا إلى نتيجتين: ينبغي ألا يتوقع المرء أن يقدم نظام الرئيس بوتين على خطوات متهورة، من جهة، وألا ينتظر توجه روسيا إلى الغرب بحثاً عن طرق وأساليب لتحقيق تحديث مكثف، سواء لأوضاعها الاجتماعية أو الاقتصادية من جهة ثانية.
وتبين أوجه الشبه بين “السياسات الاقتصادية الجديدة” في القرن العشرين والقرن الجاري أن روسيا لم تكن قادرة لأكثر من مئة عام على العثور على النموذج الخاص بها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. وبالنسبة لروسيا، يبقى “التحديث” غريباً، وأحياناً صعب المنال، ويعود ذلك إلى أن “التحديث” يقتضي قمعاً سياسياً فعلياً. ويعني الاستقرار الاقتصادي العودة إلى الظروف القديمة، وليس تحقيق التقدم. وكانت التحالفات مع العالم الخارجي، ولا تزال مؤقتة وظرفية، بينما هيمنة سلطة الدولة على الأعمال محكمة وغير متبدلة.
هكذا، فإن روسيا تلجأ قرناً بعد قرن إلى وصفات مبتكرة للنمو الاقتصادي فقط في أوقات العجز الكامل، ثم لا تلبث أن تتخلى عن هذه الخطط حالما يبدو أن مرحلة المصاعب والمشاقات قد ولت. ومن يدري، فقد تجد البلاد نفسها بعد 100 عام من الآن في جولة جديدة من الدوران في حلقة مفرغة لا نهاية لها.
المصدر: اندبندنت عربية