بلال محمد الدج، كاتب سوري من الجيل الجديد، ومن المنتمين للثورة السورية، التي انطلقت في ربيع ٢٠١١م، هذا اول عمل نقرأه له.
الطريق، كتاب أقرب إلى مذكرات وسيرة ذاتية للكاتب نفسه، تعتمد أسلوب السرد المباشر، لمجموعة الأحداث التي عاشها الكاتب، في فترة التحاقه بالخدمة العسكرية الالزامية في سورية، والتي جاءت قبل اندلاع الثورة السورية بأشهر. الكتاب رصد لما عاشه وماتصرفه الكاتب في هذه المرحلة، بشكل لحظي تقريبا، مع ما يقترن بالأحداث من منعكسات نفسية ومحاكمات عقلية، ورصد عام لمحيط الكاتب وما عاشه، ومتغيرات الوضع في سورية إبان السنتين الاولتين للثورة السورية.
يبدأ الكتاب من معاناة الكاتب بلال مما يعيش في دولة يدرك فيها أنه ينتمي للفئة المظلومة داخل المجتمع، بلال من بلدة دوما من ريف دمشق، هو طالب في السنة الثانية للمعهد الهندسي، يعرف انه لو تخرج بعد سنة من المعهد فلن يجد له عملا في قطاعات الدولة، وكذلك العمل الحر في مجاله شبه معدوم، وانه سيساق الى الجيش ليؤدي الخدمة الالزامية ويضيع سنتين هباء من عمره. يعرف أن الدولة السورية منذ عقود، أي منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سورية عام ١٩٧٠م، وابنه بشار الذي جاء بعده في عام ٢٠٠٠م، أصبحت حكرا على القليل من الطائفة العلوية الملتفة حول النظام من ضباط الجيش والمخابرات ورجال المال والأعمال وعلى القليل من الانتهازيين المطبلين للنظام، الذين يحصلون على الفتات. بلال يعرف كل ذلك، ويعرف أن اكبر عقبة في وجه أي شاب يشق حياته في سورية، هي الخدمة العسكرية الالزامية، التي تأكل سنتين من حياة الشاب دون أي فائدة، غير انها تكون وقتا ضائعا، وقد يستنزف الشاب مع عائلته، ليؤمن ظروف حياته في الخدمة العسكرية الالزامية. رغم ذلك عمل بلال بكل طاقته لكي يلتحق بالجيش بأقرب فرصة ليخدم هذه الفترة ويتفرّغ بعد ذلك لحياته العملية.
بدأت معاناة بلال من اللحظة الذي ذهب به الى شعبة التجنيد من اجل تقديم طلب إيقاف التأجيل الدراسي، وتطلب ذلك واسطة للاسراع بذلك والواسطة تعني رشوة، دفعها للضابط المسؤول، الرشوة هي طريق الفساد الناجح للحصول على أي مطلب حق يريده صاحبه في سورية، وإلا فإن العرقلة والتسويف والتأجيل والتعطيل، تقف عقبة أمام تسيير أمور المواطنين، لذلك وعى المواطن ان الرشوة هي طريق تسهيل أعماله مع موظفي الدولة على كل المستويات. دفع بلال الرشوة لتسريع توقيف تأجيله، ودفع كذلك من أجل سرعة وصوله الى مكان تجمع القادمين الجدد من اجل الخدمة، ودفع عندما صعد في الحافلة على أنها خاصة، رغم كونها للدولة، دفع من أجل الفرز، وفرز اخيرا الى كلية الدفاع الجوي في حمص، وتوجه الى هناك، وتعرف هناك على الكثير، البعض منهم مثله، يعرف واقع سورية ويتوق لحل يخرجها من السلطة المستبدة، تواق للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة. لكنه لا يعرف كيف يصل الى ذلك. اقصى ما كان يحصل عليه هو التعرف على شباب مثله، وتحولهم لأصدقاء يحلمون في ذلك اليوم، ويتعاهدون ان جاء ذلك اليوم فإنهم سيكونون من الشباب الذين يقدمون الغالي والنفيس لتحقيق هذه المطالب المشروعة. التحق أحد أخوة بلال به في الجيش، وفرز بالصدفة للدفاع الجوي وكان معه في كلية الدفاع الجوي، كما كان بجوار بلال الكثير من الشباب الذين أصبحوا مخبرين عند اجهزة النظام الامنية، ارتضوا بعيشة الذل والعبودية، والفتنة والدس على زملائهم، للحصول على فتاة من المكتسبات، مهما كان متواضعا، لقد وضعوا أنفسهم في موقع كلاب السلطة وعيونها، رغم كونهم من ضحاياها، لانهم على الاغلب من الشباب الفقير والجاهل الذي تجرع الذل واصبح طبعه. تعايش بلال مع اصناف الشباب هؤلاء جميعا، كان حذرا دوما، قليل الكلام، يتأنى في سبر الناس وفي كشفهم وفي اتخاذهم أصدقاء، أو كشفهم ان كانوا مخبرين أو من جماعة السلطة. في الجيش يتأكد بلال ان اغلب الضباط واغلب المتطوعين من الطائفة العلوية، وان الطائفية حاضرة بقوة، لكن ممنوع على أحد أن يأتي على ذكرها فهي من المحرمات. في كلية الدفاع الجوي كانت دورة الأغرار أولا لمدة خمس وأربعين يوما، تجرع بها مع الاخرين صنوف التعذيب، الذي يعتبره الضباط والمدربين تربية نفسية على الطاعة والالتزام بالاوامر العسكرية، بينما يعتبرها بلال والمجندين اولى ادوات الغاء انسانية العسكري وتحوله الى ذليل دون شخصية. في الدورة اكتشف أن أغلب العقوبات ذات طابع ذاتي مرضي تأتي من بعض طلاب الضباط العاملين، وهي ذات طابع انتقامي، في مواجهة المتعلمين والمثقفين، من قبل ضباط وطلاب ضباط شبه اميين، مسكونين بعقدة نقص مجبولة مع عقدة جنون العظمة، خاصة انهم يدركون جهلهم المطبق في مواجهة فئات متعلمة من خيرة ابناء المجتمع. ولذلك حصلت الكثير من المصادمات بين المجندين والضباط وطلاب الضباط، وادى بعضها لسجن العساكر الجدد، واجتماع كبار الضباط بهم، وإعادة توجيههم ليكونوا شبابا طيعين لقادتهم مهما كانوا. بعد ذلك فرز بلال مع آخرين الى اللاذقية ليكمل دورة الاختصاص على صواريخ دفاع جوي ، وكان اخاه قد فرز معه ايضا، ذهب لقيادة اللواء ومنه فرز لاحدى الكتائب ليكمل دورة الاختصاص، وفرز اخاه لكتيبة اخرى، تستمر الدورة لعدة اشهر. كانت في هذه الفترة قد بدأت معالم حراك الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبدأ الحراك متواضعا في سورية، ولأن الجيش حصن النظام الاول، فقد منع تسريب أي معلومة عن الربيع العربي للعناصر، عبر دروس التوجيه السياسي، فقد اعتمدوا التعمية الكاملة، لكن بلال واصدقاؤه كانت تصلهم أخبار الربيع السوري تباعا، وخاصة ان البداية كانت في درعا، ثم امتدت لكثير من المدن، ووصلت باكرا الى دوما مدينة بلال. تواصل بلال مع كثير من اصدقائه ممن وثّق علاقته معهم في بدايات الجيش وتعاهدوا على ان يكونوا جزء من هذه الثورة، لكن عندما يحين الوقت المناسب. كما التقى بلال بأخيه واتفقوا على التنسيق فيما بينهم ومع اصدقائهم لدعم الحراك السلمي الثوري. لكن مخبرا كان بين المجموعة المحيطة بأخيه قد اوصل المعلومات لقادته من الضباط ومن ثم الأمن، فاعتقل أخاه، وهذا اثّر كثيرا على بلال، حيث أصبح تحت مجهر المراقبة، وقد يقدم اخاه بعض المعلومات عنه، وقد يُقتل اخاه تحت التعذيب. أصبح بلال في وضع حرج، جعله دائم التيقظ وحذر من كل المحيطين به، وقليل الكلام، ويعتمد على الرصد والمراقبة ليسبر حقيقة من حوله، من شباب شريف نظيف تواق للثورة والحرية، او مخبرين خانوا امانة العشرة وأوشوا بأصدقائهم، وادى ذلك الى اعتقال الكثير وسجنهم دون رحمة. كان بلال حريص على أن يحمي نفسه، في قطعة عسكرية كل ضباطها من جماعة النظام ومن الطائفة العلوية، وهو كونه من دوما الثائره واخاه المعتقل، جعله تحت الشبهة. لذلك كان كتوما ويتحيّن الفرصة للانشقاق والهروب من الجيش، خاصة أن الحصار عليه اصبح شديدا جدا. كان قائد الكتيبة شديد الذكاء وكان يعتمد على بلال بكثير من أعمال الكتيبة، خاصة بعد أن مضى على التحاقه بالجيش كثير من الوقت، واصبح الأقدم بين المجندين، واصبح يستحق التسريح بعد مضي سنتين على الثورة، لكن النظام احتفظ به وبغيره. هرب الكثير من المجندين، قبض على البعض واعتقلوا ونكل بهم. كان بلال سريع البديهة ويعرف كيف يتصرف بالوقت المناسب، لكنه بقي كل الوقت موقع ارتياب ويتصرف معه الضباط على انه مهيأ للانشقاق، وقد يزج به للسجن في أي وقت. كان لذكاء بلال من جهة ولأسلوب قائد الكتيبة الذي يعتمد على استثمار كل طاقة جنوده وضباطه، وصبره على بلال، سببا في عدم اعتقاله، خاصة أن بلال قد كتب على بطاقة تعديل الدستور لا متحديا قادته والنظام ورئيس البلاد، استطاع أن يتلاعب بالالفاظ ويبرر موقفه، لقائد الكتيبة لكنها لم تُنسى له، واستمروا ينتظرونه على خطأ يؤدي به الى اعتقال لا يخرج منه حيا. كان بلال قد تريث بالانشقاق والهروب لعله يستطيع الوصول لأخيه ويساعده، لكنه لم ينجح على مدى عامين، عندها ادرك ان الحل ان ينشق ويهرب، خاصة ان حلقة المراقبة والضغط زادت عليه بشدة، وأصبح قائد الكتيبة اكثر متابعة لع واكثر تضيقا. تواصل بلال مع شباب الثورة واصدقائه في تنسيقياتها، ليتمكن من الفرار من الجيش، خاصة أن الثورة تبلورت أكثر والنظام اوغل في القتل والاعتقال والتنكيل بكل البلدات الثائرة ومنها بلدته دوما. وأن الثورة قد قررت الانتقال للعمل المسلح لمواجهة النظام وبطشه وعنفه بحق الشعب. لذلك كان طموح بلال ان ينشق ويلتحق بشباب الجيش الحر. استمر عمله وبحثه عن طريقة يهرب من خلالها لأشهر طويلة، وأساليب أقرب للعبة القط والفأر، مع قائد الكتيبة وبقية الضباط، وضاقت الظروف المحيطة به الى درجة كادت تودي به معتقلا او مقتولا. لكنه استطاعوا اخيرا وبمساعدة شباب التنسيقيات، وعبر تضحيات كبيرة وعمل دؤوب ومواظب أن يؤمنوا هروبه من كتيبته، ليصل الى جبلة بجوار كتيبته، ثم يؤمنون له هوية مزورة، يستطيع من خلالها الوصول الى دمشق، متجاوزا الكثير من الحواجز، وفي دمشق يلتقي بشباب ثوار آخرين يساعدوه ليصل الى دوما بلدته، ويلتحق بالثوار. في دوما يكتشف ان اغلب اهلها قد رحلوا عنها، بسبب القصف المتواصل للنظام عليها، وانه وصل لبيته ليجد البناء مهدما واهله قد غادروا الى البساتين المجاورة للبلدة، ويتواصل معهم ويطمئن عليهم. ادرك الثمن الغالي الذي دفعه اهل سورية ومنهم اهله واهل بلده دوما، لتقوم الثورة، لكنه ادرك ايضا ان هذا الثمن كان ضروريا لتقوم الثورة، بكل مطالبها الحقة، وأن التضحيات مهما كبرت هي المدخل الوحيد لاسترداد حقوق الناس بالعيش الكريم والحرية والعدالة وبناء الحياة الأفضل. ولا طريق آخر.
تنتهي الرواية وبلال ملتحقا بشباب الجيش الحر مدركا انه هنا في مكانه وفي زمانه الصحيح ويقوم بدره وانهم كلهم يكتبون تاريخا جديدا لسورية ولو بدمائهم.
في تحليل الكتاب نقول:
نحن أمام كتاب مفرق بالتفاصيل، يكاد يكون مذكرات عيانية، تقرير حالة طويل جدا، قد يصلح ليكون مرجعا في وضع العساكر في الجيش السوري، وعلاقة الضباط بالجنود، والهيمنة الطائفية. لا يخفى على القارئ بطولة فوق طبيعية للكاتب بصفته متحدثا عن نفسه، ذكي، حاضر البديهة قادر على التصرف دوما، يعرف كيف يحول الظروف دوما لمصلحته، اعتبر ان ذلك صحيحا في الكتب فقط أما واقع الحياة فهو مختلف، النظام وآلته قد سحقت شعبنا في كل المواقع، هذا لا يلغي أن هناك الكثير من الابطال، نعم شهداؤنا هم ابطالنا. كذلك نموذج الضابط الذكي المتفهم المستخدم للظروف لمصلحته، يعتبر نادرا، ولو انه استخدم ليظهر قدرات بلال. والضباط لا يحتاجون لكل هذه الحالة للحصول على ما يريدون. ثم بطولة بلال تتوقف على أنه كان ينجح دوما في رفع السكين عن رقبته، وان يهرب اخيرا، بطولة لا معنى لها، الا انه استطاع ان يبقى دون اعتقال ويبقى على قيد الحياة. محزن أن تكون بطولتنا نحن السوريون كذلك. وفقط.
نحتاج أن تكتمل قصة الثورة السورية بعد كل التضحيات. مليون شهيد واكثر، مليون مصاب ومعاق وأكثر، نصف الشعب السوري مشرد داخل وخارج سورية، والنصف الآخر تحت جحيم النظام، والاحتلالات المتعددة للروس وإيران والأمريكان والمرتزقة من كل حدب وصوب. عندما تنتصر ثورتنا ويسقط الاستبداد ويحاسب المجرمين وتتحرر البلاد ونبني دولة الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل. يومها نقول انتصرنا.
اما اننا بدأنا بالخطوة الأولى لثورتنا بكل تبعياتها سلبا وايجابا، فقد كان هذا المطلوب.
وهنا كان مسرح الكتاب الذي بين يدينا.