الأزمة المحتدمة بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، والتي تدنت في جزئها المتعلق بالرئيس الأميركي حتى مستوى الملاسنة والسباب لأول مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين، تستند إلى أسباب واهية يعرف الطرفان مدى هشاشة أي محاولات لتفنيدها، أو دحضها. فالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأجنبية كان، ولا يزال، أساس سياسات الولايات المتحدة. ومن جانبها فإن موسكو هي أيضا ليست بعيدة عن هذا النوع من الممارسة في علاقاتها مع بلدان الجوارين القريب والبعيد. أما عن الأعمال المتعلقة بالتجسس والمتابعة فقد كانت، ولا تزال، من أهم مفردات نشاط الأجهزة الأمنية، ليس في روسيا أو الولايات المتحدة فحسب، بل وفي كل بلدان العالم، سواء المتقدمة منها، أو بلدان العالم الثالث.
مواجهة متدحرجة
في خطوات متسارعة اندلعت المواجهة بين واشنطن وموسكو التي أثارتها تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن التي وصف فيها نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه “قاتل”، وتوعده بملاحقته ومعاقبته في حال ثبت بعد ذلك تدخله في الانتخابات الأميركية 2020.
وكانت روسيا، وبعد صمت لم يدم طويلاً، قد سارعت بالإعلان عن سحب سفيرها لدى الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخ علاقات البلدين، فيما انطلق إعلامها وعدد من مسؤوليها، في محاولة للرد على ما قالوا إنه “هجوم ضد روسيا”، كما خرجت الأوساط السياسية والبرلمانية في حملة كاملة العدد، لترد على الرئيس الأميركي بتعبيرات يقترب مضمونها من السباب على نحو مماثل لذلك الذي اتسمت به تصريحات بايدن.
الأزمة الراهنة تستمد بدايتها من تصريحات أدلى بها الرئيس بايدن إلى تلفزيون “أي بي سي” تضمنت اتهامات لنظيره الروسي بوتين بأنه “أصدر على الأرجح” توجيهات بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020 بما يخدم منافسه دونالد ترمب”، كما أعلن عن تهديده بملاحقته وإرغامه على “دفع ثمن ذلك”.
وإذا كانت موسكو قد انتفضت لترد في البداية بسيل من التصريحات السياسية والإعلامية التي صدرت عن عدد من أبرز نجوم المجتمع الروسي بمختلف أطيافه، فقد فضل الرئيس بوتين التريث إلى “حين” يختاره لاحقاً، مكتفياً بتصدير المتحدث الرسمي باسمه دميتري بيسكوف ليعلن رفضه لما وصفه بمزاعم المخابرات الأميركية في شأن تدخل موسكو في الانتخابات الأميركية العام الماضي. ولم يمضِ من الزمن سوى القليل، حتى سارعت وزارة الخارجية الروسية إلى إعلان قرارها حول استدعاء سفيرها لدى الولايات المتحدة إلى موسكو للتشاور وتقييم آفاق العلاقات مع واشنطن. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن توسيع العقوبات الأميركية يقلل من فرص تطبيع العلاقات بين الجانبين، وإن الأهم بالنسبة لموسكو هو “تحديد السبل الممكنة لترميم العلاقات الروسية – الأميركية” التي تمر بمرحلة متأزمة بسبب سياسة واشنطن. وأشارت إلى أن من مصلحة موسكو “منع تدهور لا رجعة عنه لهذه العلاقات، إذا كان الأميركيون يدركون خطورة تداعيات ذلك”.
وكانت السفارة الروسية في الولايات المتحدة قد سارعت وقبل الإعلان عن استدعاء السفير الروسي، أناتولي أنطونوف، إلى موسكو إلى إصدار بيان نشرته على صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي قالت فيه: “إن الوثيقة التي أعدتها المخابرات الأميركية تتضمن مجموعة أخرى من اتهامات لا أساس لها لبلادنا بالتدخل في العمليات السياسية الأميركية الداخلية”. وأضافت أن “استنتاجات التقرير التي خلصت إلى أن موسكو قامت بما وصفته “عمليات نفوذ” في واشنطن، استنتاجات “لم تتضمن حقائق أو أدلة محددة تؤكد مثل هذه الادعاءات”. واتهمت السفارة الروسية الولايات المتحدة بالسعي إلى “تشويه صورة روسيا”، وتحميل آخرين المسؤولية عن مشكلاتها الداخلية.
ومن جانبه، أعلن فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الدوما، أن “وصف بايدن لبوتين بالقاتل هو نوع من الهستيريا الناجمة عن الضعف”. وفي تغريدة له عبر “تليغرام” قال فولودين: “بايدن أهان مواطني بلدنا بمثل هذا التصريح الذي وصفه بأنه “هستيريا ناجمة عن العجز”. وأضاف أن “بوتين هو رئيسنا، والتهجم عليه بمثابة تهجم على بلدنا”.
وفي مجلس الاتحاد (مجلس الشيوخ) انزلق عدد من أعضائه إلى ما يرقى إلى مستوى “الشتائم السياسية” التي تتناسب مع تصريحات بايدن، على حد قول مراقبين في العاصمة الروسية. وقال أندريه تورتشاك النائب الأول لرئيسة المجلس أن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دليل على “غلبة الجنون السياسي” في الولايات المتحدة و”خرف” قائدها المرتبط بعمره. وهذه هي “أقصى درجة للعداء ناجمة عن العجز” على حد تعبير السيناتور الروسي. وأضاف “أن ثقة الروس ببوتين وصلت إلى الدرجة التي من المستحيل أن تصل شعبية بايدن إليها في الولايات المتحدة، ووصف تصريح بايدن بأنه “فظيع ووقح، وتحدٍ لبلادنا كلها”.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، حيث أطلقت “روسيا اليوم” الناطقة بالعربية نيران معلقها السياسي، ألكسندر نزاروف، الذي قال إن “بايدن ينسى كل شيء، نظراً لزحف مرض ألزهايمر، ولم يكن منذ أيام قادراً على قراءة شاشة التلقين، وهمهم لدقيقة، حتى استجمع أفكاره. ثم نسي اسم البنتاغون، واسم وزير الدفاع”. ومضى المعلق السياسي لـ”روسيا اليوم” ليقول إن “رئيس الولايات المتحدة الأميركية غير متزن بكل المقاييس. بالطبع، ليس من اللائق أن نهزأ بكبار السن المصابين بخرف الشيخوخة، لكن من الممكن تماماً أن نسخر من دولة حاولت إقالة رئيس لائق ذهنياً مرتين، ثم انتخبت شخصاً لا تسمح له قدراته العقلية ليس فقط بقيادة الدولة، وإنما أيضاً بالتواصل مع الآخرين على نحو مستقل”. وخلص في تعليقه إلى أن “أعضاء فريق بايدن يتخذون الآن قرارات مؤلمة حول ما إذا كانوا سيعترفون بعجزه وعدم لياقته ويعزلونه، أو يستمرون في إمتاع الجمهور بفضائح جديدة”.
غير أن كل هذه التعليقات لم تكن لترضي الأوساط السياسية داخل روسيا وخارجها التي ظلت منتظرة، وتعلقت أنظارها بالكرملين على أمل أن يخرج الرئيس بوتين عن صمته، ويعلن عن موقفه الذي سرعان ما تلقفته كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
الانتقام والتعويض
ولعل كل ما يدور على صعيد العلاقات الروسية – الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية يقول إن الإدارة الأميركية الجديدة بصدد تفعيل ما سبق ولوح به بايدن خلال حملاته الانتخابية من وعود وتهديد حول الانتقام من موسكو وتعويض ما وصفه بتراجعات الإدارات الأميركية السابقة، ومنها التي شغل فيها منصب نائب الرئيس الأميركي إلى جوار رئيسه السابق باراك أوباما، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، واستعادة ومواقعها في هذه المنطقة، ومواقفها المتشددة تجاه كل من إيران وسوريا، استعداداً للتحول شرقاً في اتجاه الصين وكوريا الشمالية في الشرق الأقصى. وكان بايدن قد أعلنها صراحة حين قال، إن “أميركا عادت!”.
وفي هذا الصدد يعرب الكثيرون في موسكو وخارجها عن دهشتهم إزاء ما يصفونها بالهستيريا التي تتصف بها تصريحات ممثلي الإدارة الأميركية تجاه “التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة”، في الوقت الذي يعرف العالم بأسره أن سياسات الولايات المتحدة تقوم في معظم جوانبها على التدخل في شؤون الغير في كل أرجاء الكرة الأرضية، بما في ذلك التدخل العسكري، وبعيداً عن الشرعية الدولية، على حد قول مراقبين في العاصمة الروسية. واستعرض هؤلاء الكثير من وقائع التدخل الأميركي، سواءً عبر منظمات المجتمع المدني وتمويلها والتحكم في سياساتها وأنشطتها، أو التدخل العسكري المباشر، بل وأحياناً عبر اختطاف رؤساء البلدان المستقلة ذات السيادة. كما أعادوا إلى الأذهان ما قامت به الإدارات الأميركية السابقة في الفضاء السوفياتي السابق، بل وفي قلب روسيا غير بعيد عن الكرملين، وهو ما يقصدون به ما قام به فريق الاستشارات الأميركية الذي كان يضم العديد من ضباط المخابرات الأميركية ممن عهدوا إليه دعم أنصار الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين في حملته الانتخابية الرئاسية في عام 1996 التي فاز بها من الجولة الثانية، ومن خلال ما جرى الكشف عنه لاحقاً من تزوير. وكان الرئيس بوتين قد كشف عن تورط عدد من كبار المسؤولين في الحكومات الروسية السابقة، وفي مقدمتهم أناتولي تشوبايس، المسؤول عن قطاع الخصخصة والرئيس الأسبق لديوان الكرملين في الاستعانة بمتخصصين أميركيين في ترتيب البيت الروسي من الداخل، اتضح لاحقاً أنهم ضباط في المخابرات المركزية جرى تقديمهم إلى المحاكمة في الولايات المتحدة بتهمة “الثراء غير المشروع” بعد الكشف عما حصلوا عليه من أموال طائلة في موسكو.
أما عن مستقبل علاقات البلدين فكل الشواهد تقول إن كلاً من البلدين يعرف جيداً مدى حاجته إلى الآخر، ولا سيما تجاه القضايا التي تتعلق بالحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين، على الرغم من اعترافهما بأنهما في مأزق يبدوان مطالبين وقبل أي شيء آخر بالبحث عن السبل المناسبة للخروج منه. وكان بايدن قد استهل ولايته بالموافقة على مد فترة اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية التي وقعها سلفه باراك أوباما في عام 2010 مع الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، إلى جانب إعادة النظر في الكثير من قرارات سلفه دونالد ترمب في شأن عدد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وهو ما تظل موسكو تريد البناء عليه. على أن موقفها سيتوقف بالدرجة الأولى على ما يمكن أن تتخذه الإدارة الأميركية من قرارات وعقوبات سيتوقف عليها الكثير من جوانب علاقات البلدين في الفترة القريبة المقبلة، ومن منظور ما قاله بوتين حول أن الاستقرار الاستراتيجي يقع على عاتق الدولتين، أي روسيا والولايات المتحدة، إلى جانب إشارته إلى أهمية وضرورة الاحتفاظ بالعلاقات الثنائية، وهو ما كشف البيت الأبيض عن قبوله حين تحدث عن ضرورة دعم الاتصال مع القيادة الروسية.
المصدر: اندبندنت عربية