مع فوز الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ووصوله إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض وإعلانه عن تغيير السياسة الخارجية المتّبعة تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي واتباع سياسة تختلف عن تلك التي اتبعتها الإدارة الترامبية سابقاً، لا بد من الكشف عن استراتيجية بايدن المتوقعة تجاه أوروبا التي وصفها دونالد ترامب بالعدوّة وظهر ذلك من خلال علاقته السيئة مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بعدما نعتها بالغبية وأعتبر ألمانيا سيئة للغاية بسبب الفائض في ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة الاميركية، كما وهدّد بمعاقبتها إن لم تقم بزيادة مساهمتها المالية في الحلف الأطلسي.
فمنذ الأيام الأولى لتسلم بايدن مقاليد الحكم بدأت تظهر الاستراتيجية العكسية الجديدة تجاه أوروبا والناتو تبدلاً في السياسة يطرح السؤال حول ما يتوقع أن ينجزه بايدن في عهده؟
من ناحية الاستراتيجية العامة للإدارة الأميركية وعد الرئيس بايدن بتنفيذ استراتيجية “عودة أميركا” أي الهيمنة الأميركية على العالم بعدما كان سلفه يستخدم على مدى أربع سنوات استراتيجية “أميركا أولاً – جعل أميركا عظيمة”مرة أخرى.
ومن أهم الخطوات الأساسية لعودة أميركا والسير نحو إعادة هيمنة السياسة الأميركية وسيطرة زعامتها على العالم هو إعادة صلة الوصل في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي عبر دعم أوروبا في كل القضايا العالمية وذلك بالتعاون مع دول مثل: إيران، سوريا، فنزويلا، اليمن، العراق إلخ… وغيرها. وكذلك فرض القيم الليبرالية عالمياً وتفعيل دور حلف شمال الأطلسي القوى العسكرية والأداة الأساسية لتنفيذ الهيمنة الأميركية، فأوروبا كانت وما زالت أولوية جو بايدن.
كما تفيد الدراسات بأن “الإستراتيجية الكبرى” من الإستراتيجيات والأهداف الثابتة للأميركيين المحافظة على حرية الوصول إلى المناطق الحيوية على أساس نظام سياسي متوازن يضمن لهم النفوذ في كل أوروبا والشرق الأوسط وشرق آسيا. وفي المقابل بقيت هذه الأهداف الحيويّة بمثابة خطوط حمر بالنسبة إليهم ولم تمنعهم من شن حروب عسكرية لحماية هذه الأهداف، وعبر التاريخ كانت أوروبا أهم هذه المناطق الثلاث وهذا ما اعتمدته أميركا قبل دخولها الحرب العالمية الثانية، أن أوروبا أولاً.
والجدير ذكره أن اليابان هي من هاجمت “بيرل هاربور” وليست ألمانيا إلا أن أميركا حافظت على سياسة أوروبا خلال فترة الحرب وأثناء الحرب الباردة أكثر من آسيا. من هنا نفهم أن استراتيجية أميركا هدفها الرئيسي والأساسي هو منع الآخرين، ليس فقط من الدخول إلى المجال الأميركي، بل وأيضاً إلى أماكن النفوذ ومنافستهم في حيّزهم الجغرافي لضمان السيطرة والوصول إلى كل المناطق الحيوية ولو كانت بعيدة جغرافياً.
علاوة على ما تقدم، وانسجاماً مع استراتيجية بايدن “عودة أميركا” يبقى هدفه الرئيسي منع الصين وروسيا من التقدم والتغلغل في المجال الحيوي الأوروبي إضافة الى عودة العلاقات بين ضفتيّ الأطلسي وترميم ما انقطع مع أوروبا من علاقات.
حلف “الناتو” بين الديموقراطيين والجمهوريين
رغم الخلافات الداخلية بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في مجالات عدّة كالصحة والتعليم… إلا أن وجهة نظرهم بالنسبة الى “ناتو” تتسّم بالتوافق في ما بينهما على تفعيل الحلف، والدليل هو أن بايدن لم يواجه أي معارضة داخلية في مجلس الشيوخ فيما وجهة نظر بايدن بالنسبة الى العلاقات مع روسيا تختلف عما هي في نظر ترامب، فالأخير يرى أن الروس شركاء منافسون له فيما استراتيجية بايدن تبدو مختلفة وقائمة على الدفاع عن حلف “الناتو” وهو الحلف الضروري لحماية الأمن القومي الأميركي وحماية القيم الليبرالية في العالم، فضلاً عن توجه بايدن الى التعاون مع أوروبا في الكثير من الملفات وتعهده الانضمام الى إتفاقية “باريس للمناخ”. كما سيعمد الى عقد إتفاقية قمّة عالمية للديموقراطية لترميم صورة الولايات المتحدة التي تضررت من سياسة ترامب العدوانية والعمل على مواجهة الصين بحسب المقاربة الأوروبية، بوصفها شريكاً مناهضاً أو منافساً اقتصادياً. وعلى هذا الأساس سيبحث مع شركائه الأوروبيين ازدياد التغلغل الصيني في أوروبا وتفضيل الشركات الأميركية والغربية على الصينية والتعامل مع روسيا على أساس الردع والتعاون والاستقرار الاستراتيجي وأن لا تستفيد روسيا من الانقسام الغربي والالتزام بمعاهدة “ستارت”.
أما الاقتصاد والتجارة فسيكونان من أولويات الإدارة الجديدة وذلك بفتح الأسواق التجارية وتحسين العلاقات التجارية مع أوروبا وإنهاء الحرب التجارية التي سببها ترامب وإعطاء أفضلية للشركات الأميركية على الصينية. وبالتالي فإن السنة الأولى في عهد بايدن سوف تشهد مفاوضات مع ألمانيا التي يقل إنفاقها عن 2 في المئة المنصوص عليه في إعلان قمة “ويلز” للعام 2014.
واخيراً وليس آخراً ستكون العلاقة الاستراتيجية أو الحوار بين ضفتّي الأطلسي مختلفة تماماً مع إدارة بايدن عما كانت عليه مع ترامب في الأعوام الأربعة وقبل عهد أوباما المتردد لتفعيل العلاقات عبر الأطلسي التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تعويم القيادة الأميركية للعالم، وقد يكون الموقف الأصدق عندما صرّحت وزيرة الدفاع الألمانية عن دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى استقلال استراتيجي – أوروبي معتبرة أنه نوع من “الوهم” .
فهل سياسة بايدن الجديدة ستحدد نقاط الخلاف والاتفاق بين الحُلفاء والأعداء في الشرق الأوسط وجنوب آسيا؟
* باحث في العلاقات الدولية – باريس
المصدر: النهار العربي