قراءة في كتاب: تحية الى حماه… قوّة العمل السلمي

أحمد العربي

صبر درويش كاتب سوري يقيم في فرنسا، ينتمي للثورة السورية، تابع شأن الثورة السورية في كتب متعددة له، ومع آخرين. قرأت له كتاب “سورية تجربة المدن المحررة” وكتبت عنه.

كتاب “تحية الى حماة… قوّة العمل السلمي” هو متابعة للحراك الثوري في مدينة حماة منذ بداية الربيع السوري في آذار ٢٠١١م. يعتمد الكاتب فيه على شهادات ميدانية من ناشطين ميدانيين كثر، كان اهمهم الناشط المخضرم “ابو فادي” كذلك الناشط من جيل الشباب “ابو عروبة”، بحيث أصبح الكتاب شهادة ميدانية لما حصل في حماة سنوات الثورة الاولى بشكل اساسي.

  • التأثر بالربيع العربي.

لم يكن ليمر الربيع العربي الذي بدأ في تونس ثم مصر وليبيا واليمن في مطلع عام ٢٠١١م، من حراك ثوري ضد دول الاستبداد، وتساقطها تباعا، دون أن يحيّي في أعماق السوريين جذوة الشوق للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية المفقودة، في ظل نظام طائفي قمعي استبدادي، هيمن على سورية عبر أربعة عقود منذ انقلاب حافظ الاسد عام ١٩٧٠م، وتوريثه الحكم بعده إلى ابنه بشار. الشعب الذي عانى القمع والفساد والمحسوبية والسجن وكل صنوف التمييز والاستغلال. لكن السوريين يعرفون أن إذلال الشعب واخضاعه لم يحدث من فراغ، حيث عانى السوريون جميعا من بطش النظام وقمعه وظلمه. أما أهل حماة فقد كانت معاناتهم مضاعفة، وما عاشوه كان أمرّ وأشدّ قسوةً.

مدينة حماة وأهلها الذين كانوا في مواجهة النظام السوري منذ الستينات، حيث واجه التيار الاسلامي محاولة العلمنة والنزعة الطائفية للنظام. وكان تداعياتها اعتقال رموز دينية ومجتمعية سياسية. كان أهمها في ذلك الوقت مروان حديد، الذي سيبرز بعد سجنه بصفته منظرا وقائدا تنظيميا، حيث أسس تنظيم الطليعة المقاتلة التي واجهت النظام بعمليات عسكرية واغتيالات ابتدأت منذ اواسط سبعينات القرن الماضي، واستمرت حتى اوائل الثمانينات كان ضحيتها مروان حديد نفسه حيث اعتقل وصفي في السجن اواسط السبعينيات، وكذلك امتد عمل الطليعة المقاتلة ليصل الى كل سورية تقريبا. لكن كثافة التواجد والفاعلية كان في حماة وخاصة في حي الحاضر وبعض الأحياء الاخرى. استطاع النظام بقمعه العسكري والأمني أن يدفع شباب تنظيم الإخوان المسلمين وقتها أن يكونوا جزء من العمل المسلح، رغم اختلاف التنظيم مع الطليعة المقاتلة في الأسلوب والدعوة، حيث يؤمن تنظيم الإخوان بالسلمية والتدرج. وكانت النتيجة هي تدمير أحياء من حماة وقتل الآلاف من اهلها عبر اجتياحها العسكري وتدميرها وقصفها. حصل ذلك حيث حضرت قوات سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد مع بعض الوحدات العسكرية. واستباحت حماة ونكلت بها وبشعبها قتلت ودمرت وانهت الحراك المسلح للطليعة المقاتلة وشباب الإخوان الملتحقين بهم. كما توسع التنكيل ليمتد لكل سورية، ويصل الى الحراك المدني للنقابات وكذلك الحراك السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي الذي أعلن عداؤه للنظام المستبد ورفضه للعنف والطائفية في سلوك الطليعة المقاتلة. وهكذا وئدت الحركة الوطنية وحراك الطليعة والاخوان الذين جرموا وحكموا بالإعدام لمجرد إثبات الانتماء للتنظيم. ودخلت سورية منذ اوائل الثمانينات في حالة رعب وخوف وخنوع.

  • حماة وشبابها الثوري.

كان ما عاشته سورية في العموم وما عاشته حماة من قمع واستبداد وظلم ووحشية النظام حاضرا في ذهن الشباب الحموي الذي وصلته شرارة الربيع العربي، كذلك ما حصل مع أطفال درعا وردة فعل النظام وقتلهم والتنكيل بهم، جعلهم يلتقطون الشعلة ويتحركون ليصنعوا حراكا سلميا عبر التظاهر في حماة. لم يغب عن بالهم الماضي وما حصل في حماة لكن شوق الحرية والاستعداد للتضحية والفداء والامل بالتغيير والعمل له، جعلهم يلتقوا كشباب ناشطين ويتواصلون ويعملوا معاً ليصنعوا حراكهم الخاص.

لقد تركز الحراك في البداية في أحياء الحاضر وباب قبلي والجراجمة، وبدأ الشبان يخططون لتنطلق تظاهراتهم منها، وكانت المساجد هي مراكز انطلاقهم ونداء “الله أكبر حرية” هي الصرخة الأولى التي التمّ حولها عشرات الشباب الثائر المندفع المتحمس، وحركتهم في الشوارع، وبداية التحاق الناس بهم أول بأول. كانت الجُمع المتتالية على مواعيد لتظاهرات جديدة، بدأ الشباب بالتواصل والتنسيق والتحشيد. وتوحدت تسميات الجمع على مستوى سورية وأصبحت أكثر تنظيما وكثافة.

كان رد فعل النظام على التظاهر هو استدعاء الأمن والشبيحة ومواجهة التظاهرات بالعنف والعصي والسلاح الأبيض والعمل على تفريقها. لكن التظاهرات زادت قوتها وتنظيمها وتوسعت فعالياتها. خلقت قادتها الميدانيين ومنشديها، وكان القاشوش بهتافاته مميزا حيث أصبحت أناشيده معممة على مستوى سورية. برز القاشوش الذي سيخلد بما غنى للثورة والشعب.

كان لتوسع المظاهرات وسلميتها وتنظيمها ومقاومتها لعناصر الأمن والشبيحة، دورا في الهيمنة على الشارع الحموي، واندفاع الناس للانتقال من الصمت الى المشاركة، لتصبح مظاهرات بعشرات الآلاف لتصل الى مئات الآلاف في شهر حزيران وتموز. وكان للمجزرة التي حصلت في جمعة أطفال الحرية في حزيران ٢٠١١م. ومواجهة المظاهرة بالرصاص الحي وسقوط المئات من الشهداء وأكثر من ذلك من المصابين، قد دفع الشباب الثائر ليصعد بالمطالب التي كانت تنادي بالإصلاح لتتطور تدريجياً بعد ذلك الى المطالبة بإسقاط النظام. كان التحشيد في تشييع شهداء جمعة اطفال الحرية ومواجهة الأمن والشبيحة وعجز النظام عن السيطرة على مدينة حماة وأصبحت بعد ذلك مدينة حماة شبه محررة.

  • حماة محررة.

بعد مجزرة أطفال الحرية في حزيران ٢٠١١م أصبح الحراك السلمي للمظاهرات في حماة هو المسيطر على المدينة، واستطاع أن يطرد قوى الامن والشبيحة من منها، وأصبحت ساحة العاصي هي مركز تجمع التظاهرات التي تخرج من أحياء حماة لتصل الى هناك وتبث حضورها ومطالبها عبر وسائل الإعلام بثا حيا.

وصلت أعداد المتظاهرين في ذلك الوقت إلى مئات الآلاف، وبادر النظام لنزع تمثال حافظ الأسد من المدينة خوفا منه أن يقوم المتظاهرين بتحطيمه، على غرار ما فعل الثوار في مدن اخرى في رموز النظام من صور ولوحات تماثيل حافظ وابنه بشار واخوه باسل. كان ذلك بمثابة رد اعتبار إنساني على رمز الظلم الذي وقع على مدينة حماة وأهلها قبل عقود. كان ذلك الوقت هو ذروة النصر الذي عاشته حماة، حيث كانت الشعارات الوطنية الديمقراطية هي المهيمنة، حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية، طبعا مع مطلب إسقاط النظام، كما كان للتظاهرات صداً كبيرا حيث حضر السفيرين الامريكي والفرنسي الى ساحة العاصي وشاهدوا حقيقة التظاهرات واعدادها. كان اعتقاد الناشطين ان الغرب وامريكا يساندون الثوار ومطالبهم العادلة، لكن ذلك لم يحصل وشعر الثوار لاحقا بالخذلان.

كان من نتائج تحرير مدينة حماة حصول مسؤوليات مباشرة تتعلق بالأمن والحفاظ على المنشآت العامة. ومن يومها أنشأت حواجز في الأحياء ودوريات لتتابع مصالح الناس. وتشكلت مجموعات شبه تنظيمية لمتابعة ذلك. نادي شباب الحرية نموذج لذلك. كان امتحان الانتقال من مطلب إسقاط النظام المعمم وانتقاله الى واقع إدارة مدينة محررة، هناك إحساس بأن الخبرة العملية وكيفية التصرف من الناشطين قليلة أو معدومة. كما صاحبها بعض السلبيات بحيث كانت الحواجز التي نصبها الناشطين في وقت ما عبئ على الناس وتؤسس لقوة أمر واقع غير مضبوطة، قد تنحرف عن المطلوب منها.

كانت مدينة حماة في حزيران وتموز ٢٠١١م مدينة محررة حاول النظام اقتحامها عبر شبيحته وأمنه وفشل، عاشت تجربتها بحلوها ومرها، لكن ذلك لم يستمر…

  • اعادة سيطرة النظام على حماة.

لم تدم فترة تحرير حماة كثيرا، فقد استدعى النظام قواته العسكرية، الدبابات والعربات والجنود والأسلحة الثقيلة، وبدأ منذ مطلع شهر آب ٢٠١١م بالهجوم على مدينة حماة واحيائها. حاول الثوار والناشطين المواجهة بما يمتلكوا من اسلحة صيد وبعض البنادق الآلية لكن لم يستطيعوا الصمود. ودخلوا المدينة بالدبابات وقطعوها بالحواجز الأمنية والعسكرية. وبدؤوا بحملة اعتقالات معتمدين على قوائم كانوا قد أعدوها للناشطين، كذلك على مخبرين مقنعين. وأدى ذلك لاعتقال اغلب ناشطي الثورة الأساسيين. ومن يومها لم يعرف مصيرهم واغلبهم تم تصفيته في المعتقلات. والبعض نزح مع الكثير من اهل حماة، عندما بدأت الاقتحامات، ويقال ان نصف اهل حماة قد نزحوا إلى الأرياف المجاورة وخاصة مدينة السلمية ومدينتي دمشق وحلب. وبعد حوالي الشهر ويزيد بدأ اهل حماة بالعودة اليها حيث اخذوا يعيدون التأقلم مع واقع النظام القمعي والانحناء له خوفا من الأسوأ. خاصة وفي ذاكرتهم أحداث الثمانينات من القرن الماضي. وواقع العنف والمواجهة الذي كانت نتائجه مأساوية على بعض المدن السورية. مثل حمص وحلب المجاورتين لحماة.

  • الجيش الحر في حماة.

كانت المواجهات العنيفة بين النظام والحراك السلمي يعم سورية كلها، ومنها مدينة حماة بطبيعة الحال. وهو ما دفع بعض الناشطين ليفكروا بالتوجه للتسلح لمواجهة قوات النظام الأمنية، بداية لحماية المظاهرات، ثم لمواجهة محاولات اقتحامات النظام للمدينة.

كانت البداية من مبادرات فردية تحمل أسلحة صيد أو بنادق آلية، ثم بدأت تظهر مجموعات مسلحة يأتي لها دعم مادي وتسليح من داعمين خارجيين؟!، تكاثرت المجموعات، لم تتوحد، اختلفت اجنداتها، بدأت تتصرف وفق أجندة الداعمين. بدأ يظهر ان الحراك المسلح غير قادر عبر مواصفاته ان ينتصر في أي معركة، لكنه قادر على ان يقدم المبرر للنظام ان ينكل بالشعب والثورة والثوار. كما كان لتصرفات المجموعات المسلحة ونقص نضجها السياسي والعسكري واختلافاتها وارتباطاتها دور في ازدياد ريبة الناس منها وعدم اعطائها الولاء الشعبي اللازم. كما بدأت تظهر الأجندات الطائفية وغاب الخطاب الوطني الديمقراطي. لمع نجم العرعور وخطابه الطائفي المقيت وأمثاله، وبدأت تتغلغل أفكار القاعدة والنصرة وداعش في أوساط الشباب. كان ذلك كله مبررا عند الناشطين الثوريين ممن تبقى بعد الاعتقال والاستشهاد والنزوح والتواري والصمت، وظهور جيل تالي أغلبه من الشباب المندفع وبعض الصناعيين والعمال وصغار الكسبة غير المثقفين والأقل نضجا.

تصرف وجوه المجتمع والناشطين السياسيين المخضرمين، على رفض اعطاء اي فرصة لنمو العمل العسكري للمجموعات المسلحة داخل مدينة حماة. لقد كان في ذاكرتهم التجربة المريرة لأحداث الثمانينات إضافة إلى تشرذم المجموعات وتبعيتها لأجندات مختلفة متصارعة. جعل حماة في منأى عن العمل المسلح ضد النظام. صحيح أنه حصلت محاولة مواجهة النظام عسكريا واعادة تحرير حماة قام بها بعض المجموعات. بعد الاجتياح الأول لحماة، لم تستطع النجاح، أدت هذه وأمثالها لقرار رفض الناس للعمل العسكري داخل حماة حفاظا على اهلها من القتل المجاني والتهجير، وحفاظا على المدينة من التدمير.

وهكذا انتقلت المجموعات المسلحة من حماة الى الريف الحموي وريف حلب والمناطق المحررة واصبحوا جزءاً من البنية العسكرية للجيش الحر والمجموعات العسكرية بتنوعها هناك.

ينتهي الكتاب ولسان حال النظام يقول لأهل حماة: الأسد او نحرق البلد.

هنا ينتهي الكتاب، وفي التعقيب عليه نقول:

نحن أمام كتاب آخر للكاتب المتميز صبر درويش عن واقع الثورة السورية، مركّزا فيه على مدينة حماة والحراك الثوري فيها.

لقد تميز الكتاب بالمصداقية والدقة والتوازن، لم يصمت عن واقع العطب في مسار الثورة في حماة، وهذا لا يناقض انتماؤه الصميمي لها ولمطالبها المشروعة، بل الاصح ان نضع تجربتنا الثورية في حماة وغيرها تحت مجهر المراجعة لنعرف ما حصل معنا أولاً، ومن ثم لنتعلم من تجاربنا، خاصة أن ثورتنا لم تنتهي. يعني لم تنتصر ولم تنهزم، وما زالت مشروعة، والحقوق مازالت مهدورة ومبررات الثورة مستمرة؛ كما أن للكتاب قيمة معرفية لأن توثيق ما حصل يجعله غير قابل للنسيان، ومهما استحضاره لكي نتعلم منه للمستقبل.

الحساب الختامي لثورتنا السورية كان قاسيا. ومن باب الإنصاف كان لوعي وخبرة واستفادة اهل حماه من تجربتهم المريرة لأحداث الثمانينات من القرن الماضي، ان انتهى واقع حراكهم الثوري بأقل الخسائر. ونحن هنا لا ندين تجارب البلدات والمدن الاخرى في الثورة، فلكل منها سياقها وخبرتها ومبرراتها، وان بحثنا عن إدانة فإن الإدانة الدائمة للنظام المستبد الطائفي المجرم في كل ساحات الثورة السورية، عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري.

ثورتنا السورية مستمرة وخبراتها تنتقل لأجيالها الجديدة اولا بأول وهي مهمة لم تكتمل بعد ولا بد من تحقيقها.

ننتصر للشعب ونحقق الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل.

نعيد تحرير سورية من محتليها الروس والايرانيين والامريكان والمرتزقة الطائفيين والانفصاليين ال ب ك ك. ونسقط النظام المستبد المجرم الذي اوصل البلاد الى هذه المأساة.

 ننتصر للشعب الذي ضحى بمليون شهيد، ومثلهم مصابين ومعاقين، ومثلهم معتقلين ومفقودين، ونصف الشعب السوري مشرد داخليا وخارجيا. وأغلب ما تبقى من الشعب تحت سيطرة النظام يعيش القمع والخوف والفاقة والجوع… لكل هذا ثرنا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى