قرأت مؤخرًا دراسة جيدة عن الثورات في العالم، يمكن الاستفادة منها في واقعنا الحالي، في الذكرى العاشرة للثورة السورية، على الرغم من أنها تركِّز بصورة أساسية على الثورة الروسية، ثورة عام 1905 وثورة عام 1917، مع إيماننا في الحصيلة بأن لكل شعب تجربته الخاصة المستندة إلى واقعه وظروفه وأحواله.
ترى الفيلسوفة البولندية روزا لوكسمبورغ (1871-1919)، أن الثورة هي “شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي فيه النصر إلا عبر سلسلةٍ من الهزائم”؛ فهناك ثورات عديدة لم تنتصر إلا بعد أن هُزمت مرات عدة، وما كان لها أن تنتصر لولا استفادتها من هزائمها القاسية التي تعرضت لها. وغالبًا لا يُسلَّط الضوء، عند الحديث عن الثورات المنتصرة، على هزائمها السابقة، بل على مشهد الانتصار الأخير فحسب. الثورة الروسية، مثلًا، لم تكن وليدة العام 1917، بل سبقتها ثورة عام 1905 التي هُزمت بقوة، وفي استعادة التاريخ غالبًا ما يجري تجاهل أو نسيان ما حملته المرحلة بين 1905 و1917 في روسيا من تضحيات ونضال وركود وإحباط وموت.
قامت ثورة شعبية في روسيا عام 1905 احتجاجًا على الاستغلال والحرمان والاستبداد، وعلى الأوضاع التي خلقتها حرب روسيا ضدّ اليابان في عام 1904، وكان الشعب الروسي يرزح وقتها تحت الحكم القيصري الاستبدادي. ففي 9 كانون الثاني/ يناير 1905، تظاهر آلاف العمال في سان بطرسبورغ العاصمة، حاملين صور القيصر، وطالبوا بزيادة أجورهم ورفع مستوى الحريات العامة، فما كان من القيصر إلا أن أمر الجيش بإطلاق النار عليهم ليسقط نحو ثلاثة آلاف بين قتيل وجريح، ما أدى عمليًا إلى اتساع نطاق الحركة الشعبية، لتتحول إلى انتفاضة شاملة خلال أشهر قليلة. لكن قدرة الشعب الروسي على التنظيم آنذاك لم تكن كافية لتحقيق النصر، وكان عليه أن يخوض التجربة على الرغم من قساوتها.
أعلنت السلطة القيصرية المحاكم العرفية، وعلّقت المشانق، ونفذت آلاف الأحكام بالإعدام، وقتلت الآلاف رميًا بالرصاص من دون محاكمة، كما كانت هناك آلاف الحالات من الاعتقال والنفي إلى سيبيريا، واضطر الآلاف من المعارضين والثوريين أيضًا إلى الهجرة إلى أوروبا هربًا من القمع والموت أو طمعًا في مواصلة المعارضة من الخارج، لكن الشرطة السرية القيصرية استمرّت أيضًا في ملاحقتهم خارج حدودها.
أدى القمع العنيف إلى تراجع الحركة الشعبية تدريجًا، والانحطاط الحادّ في المعنويات، وإلى انحدار شبه كامل في غضون سنوات معدودة على المستويات كافة؛ تدهورت أعداد المتظاهرين المشاركين في الإضرابات من نحو ثلاثة ملايين في ذروة الثورة في عام 1905، إلى أقل من النصف في العام 1906، ثم إلى 47 ألفًا في عام 1910. وكان لهذا التراجع الحاد تأثيرٌ كبير على التنظيمات السياسية والثورية أيضًا، فهي تنظيمات تنمو في الأحوال الثورية وتتدهور بأفولها؛ خلال عامين من الثورة، في كانون الثاني/ يناير 1907، استطاع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي مثلًا تحقيق ازدياد كبير في أعداد المنتسبين إليه حتى وصل عدد أعضائه إلى نحو 150 ألف عضو، لكن هذا النمو انحسر بشدة مع انكسار الحركة الشعبية.
انكمش التنظيم الثوري وغاب العمل المنظم؛ في عام 1907 كان عدد أعضاء الحزب نحو 8 آلاف عضو في بطرسبورغ وحدها، لكن في كانون الأول/ ديسمبر 1908 وصل إلى 300 – 400 عضو فقط. وكان الأسوأ هو أن التدهور الحاد للأحزاب الثورية قد أدى إلى دخول عملاء الشرطة السرية القيصرية إليها، إلى درجة أن تنظيم الحزب في موسكو مثلًا قد اختفى كليًا في عام 1910، بعد أن أصبح أحد عملاء الشرطة السرية أمينًا عامًا له.
وكان على الثوريين الوقوف في وجه الانهيار والتفكك التام، والذهاب نحو إعادة البناء، شعبيًا وتنظيميًا، بصبر ومثابرة، وانتظار أحوال ملائمة جديدة لرفع وتيرة العمل تدريجًا. وتمثلت أهم خطوة بتحليل الواقع وتوازناته، والعمل في ضوئها لا خارجها. لكن الهزيمة الساحقة للثورة قد أدّت إلى صدمة لم تطل الحركة الشعبية فحسب، بل الحركة السياسية والتنظيمات الثورية أيضًا، واستسلم كثيرون؛ بعضهم تخلّى عن القيام بأي عمل نضالي بحكم شعوره باللاجدوى، وبعضهم الآخر عاد إلى أحضان النظام القيصري بحكم عدم القدرة على إطاحته.
أما الذين لم يستسلموا، فذهب قسم كبير منهم في اتجاه إنكار الهزيمة، وإعلان استمرارية الثورة، واستمروا بإطلاق الشعارات الكبرى التي تفتقد إلى أي رصيد واقعي، بدلًا من الإقرار بالهزيمة وخفض سقف التوقعات والتركيز على الإنجاز في المعارك الصغيرة تحضيرًا لمستقبل آخر بالاستفادة من الأخطاء السابقة. كان من بين أولئك الروائي الشهير مكسيم جوركي الذي استمرّ يكرِّر شعارات التصعيد الثوري ذاتها انطلاقًا من الأهداف والرغبات بدلًا من الواقع وموازين القوى والتغيرات الكبيرة التي حصلت. يبدو أن الخطاب الذي ينكر الهزيمة شائع جدًا عبر التاريخ في عقب كل هزيمة. بعد هزيمة الثورات التي اجتاحت أوروبا خلال المدة 1848-1849، كتب ماركس: “يترك القمع العميق للثورة بصمة قوية في عقول المشاركين فيها … ولذلك، حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة قد يفقدون عقولهم لفترات قصيرة أو طويلة، فلا يستطيعون مواكبة الأحداث ولا يتقبّلون حقيقة أن التاريخ قد غيّر مجراه”.
تحتاج المواجهة الفاعلة للهزيمة، أي هزيمة، أولًا وقبل أي شيء، إلى الإقرار بها. ومن ثمّ إلى اختيار التكتيكات الملائمة وساحات العمل المنتجة حتى لو كانت صغيرة، وهذا لا يعني أبدًا التخلّي عن الثورة وأهدافها، بل يعني مراجعة التجربة ونقدها، والاستعداد لمرحلة كفاحية جديدة، بطيئة وصبورة، لتحقيق آمال الثورة مستقبلًا، عندما تسمح تغيرات الواقع وتوازناته بذلك. ينبغي لنا ألّا نقلِّل من أهمية المعارك الجزئية، ومن محاولات كسب المواقع والمساحات السياسية الصغيرة.
في عقب هزيمة ثورة 1905 الروسية صعدت إلى السطح رهانات جديدة من بعض الثوريين تعوِّل على أن تدهور الاقتصاد يمكن أن يخلق دفعًا جديدًا للثورة، ولذلك رأى أولئك أن الكارثة الاقتصادية العالمية في عام 1907 التي انعكست بشدّة على الاقتصاد الروسي يمكن أن تدفع الشعب الروسي لإعلان التمرد من جديد، وإعطاء الثورة زخمًا جديدًا، لكن هذا لم يحدث، فقد ازداد الروس يأسًا إلى جانب ازديادهم فقرًا. كتب تروتسكي في مراجعته لتلك المرحلة: “بعد مدة من المعارك والهزائم الكبرى، قد تؤدي الأزمات الاقتصادية، لا إلى استنهاض طاقة الطبقة العاملة في النضال، بل إلى هيمنة الإحباط بين صفوفها، ما يُدمِّر ثقة العمال بقوتهم الجماعية ويقتلهم سياسيًا”.
في الحقيقة، ليست هناك علاقة خطية أو مباشرة أو ميكانيكية بين التدهور الاقتصادي وتفاقم الثورة في أي مجتمع، بل هناك علاقة مركبة ومعقدة بين طرفي المعادلة، والحاسم في تحديد التفاعل بينهما هو السياق الذي يحصل فيه التدهور الاقتصادي؛ فإذا جاء في سياق الهزيمة فعلى الأرجح أنه سيخلق يأسًا وإحباطًا متزايدين لدى عامة الشعب، وإذا جاء التدهور في سياق النهوض الشعبي، فعلى الأغلب سيؤدي إلى تزايد زخم الاحتجاج الشعبي، ما يعني أن ازدياد الفقر ليس شرطًا حاسمًا في حدوث أو ازدياد زخم الثورة.
لكن ابتداءً من عام 1911، عادت الحركة الشعبية إلى الصعود اعتمادًا على العمل البطيء والصبور، ومراكمة النجاحات الصغيرة، وقد عبر لينين عن هذا بقوله في تموز/ يوليو 1909: خلال ثورة 1905، تعلمنا كيف نتحدّث الفرنسية؛ نرفع طاقة النضال المباشر للجماهير، ونوسِّع أفق هذا النضال. والآن في مرحلة الركود والتراجع والتفكك، علينا أن نتعلّم كيف نتحدّث الألمانية؛ أن نعمل ببطءٍ وانتظام وثبات، وأن نتقدّم خطوة خطوة، وأن نكسب بوصة تلو الأخرى. ومن يجِد هذا العمل مملًا… فإنه قد أخذ لقب الماركسي عبثًا”.
بعد هزيمة ثورة 1905، حصلت في روسيا عملية إعادة بناء طويلة الأمد، لكنها بالتأكيد لم تنطلق من الصفر؛ فالخبرات الكثيرة المتراكمة لدى قطاعات شعبية وسياسية روسية خلال الثورة المهزومة وسنوات الإحباط القاسية بعدها كان لها دورها المهم، وظهرت إلى السطح عندما تغيرت الأحوال وموازين القوى، وساهمت في إنجاح ثورة أكتوبر 1917. لقد انتقلت ثورة الشعب الروسي في عام 1905 من الزخم إلى الهزيمة، ومن ثمّ إلى الركود والانحسار، لتنهض من جديد وتعبِّر عن نفسها في ثورة جديدة في أكتوبر 1917، استفادت من أخطاء وتجارب الماضي، ثورة انتصرت وأعلنت ولادة نظام جديد.
لا شك في أن لكل شعب تجربته الخاصة، ولكل زمن شروطه وأدواته، والتاريخ لا يكرِّر نفسه، ولا توجد نسخة واحدة من الثورات يمكن تعميمها، لكن أيضًا للتاريخ منطق وقانون، وتمكن الاستفادة من تجاربه، ومن تجاربنا، لنستطيع، نحن السوريين، الرؤية أبعد من اللحظة الراهنة المتخمة يأسًا وإحباطًا؛ فقد مرّت ثورة الشعب الروسي بمسار قاسٍ ومؤلم إلى أن حققت ما أعلنته من أهداف وقتها، وتقول لنا تجربته بوضوح إن الثورة سيرورة مستمرة من الصعود والهبوط والارتقاء والانحدار، ومن الصراعات الصغيرة والكبيرة، كما تخبرن أن الواقع قابل للتغيير مهما بلغت قساوته، وأيًا كانت مرارة الهزيمة، وأن إعادة بناء أفكارنا وآلياتنا من منظور مستقبلي مسألة مركزية وضرورية إذا أردنا أن يكون لنا مكان ودور في صوغ حياتنا. الثورة السورية تنتظر السوريين لاستخلاص دروسها والاستفادة من أخطائها، وللمراكمة الإيجابية على جهد أبنائها وتضحياتهم، جهد السوريين كلهم، وآنذاك ربما تولد الثورة ولادة جديدة، وتقدِّم نفسها بصيغة جديدة وعقل جديد وخطاب جديد.
المصدر: المدن