غياب العقل النقدي

بسام شلبي

خلال فترة ازدياد انتشار هذه الجائحة التي سميت باسم الكورونا كان هناك الكثير من الفيديوهات والمقاطع المصورة والمقالات على شبكة التواصل أسرع من انتشار الفايروس
وربما أكثر فتكًا.
فرغم أن فيروس كوفيد ١٩ ليس من الفيروسات الخطرة أو القوية التي ضربت البشرية عبر تاريخها الطويل في الصراع مع الطبيعة. فإن ما تم نشره وتداوله على وسائل التواصل قد جعل له سطوة خيالية أثرت على حياة البشر في كل أنحاء المعمورة.
وكانت مرحلة كاشفة لكثير من الهشاشة في المناعة الجسدية والفكرية للمجتمعات وأخص العربية منها. إن فيروس (كوبي- بست) أقوى وأشد فتكًا بنا. وهو منتشر منذ فترة طويلة لدرجة أنه دمر خلايا العقل والمنطق. بشكل يفوق التصور، ودون مواجهته ستكون مناعتنا المجتمعية معدومة.
إن غياب العقل النقدي في ظل هذا التدفق المعلوماتي الكبير أخطر بكثير من فايروس كورونا أو غيره من الفايروسات السابقة أو القادمة. وسأضرب مثالًا حقيقيًا يبين حجم المأساة الفكرية التي نعيشها. أنا مشترك في مجموعة كبيرة على (الواتس اب) تضم شرائح مختلفة من حيث مستوى التعليم ومن ضمن الأعضاء طبيبان بشري وطبيب أسنان وصيدلاني وعدد من المهندسين، إضافة لمجموعة كبيرة من مستويات أقل في التعليم.
أحد الطبيبين وهو غزير المشاركة وغالبًا ما كان يرسل مقاطع وفيديوهات دينية أو اجتماعية فيها كثير من الأشياء غير المنطقية أو غير العقلانية. وكنت أتجاوز وأقول بأن هذا ليس من اختصاصه وربما إنه لا يعلم أو أنه أحب توصيل المعلومة كما هي، أو.
رغم أنني أعتقد أن المنطق والتفكير المنطقي يجب أن يكون صفة من صفات الشخص المتعلم بغض النظر عن الاختصاص. وخلال فترة جائحة كورونا أثناء المرحلة الصينية الأولى أرسل هذا الطبيب العديد من الفيديوهات التي تداولها العامة ومعظمها ليست دقيقة علميًا، ولكن استوقفني فيديو أرسله هذا الطبيب لرجل صيني في مقتبل العمر يسقط صريعًا في الشارع بسبب فايروس كورونا المستجد. انتظرت فترة وتوقعت أن يصدر تعقيبًا أو تعليقًا من المرسل أو المتلقين. ولكن خاب أملي، اتصلت بالطبيب الآخر المشترك معنا في المجموعة وسألته إذا كان شاهد هذا الفيديو، فأشار بالإيجاب وسألته هل من المعقول علميًا أن يسبب مرض فيروسي مهما كان نوعه هذا الموت المفاجئ، فأجاب بالنفي. سألته لماذا لم يعلق إذًا على الفيديو، بالأخص أنه أُرسل من قبل طبيب صاحب اختصاص. تملص بداعي وجود الحساسيات بين الأطباء وأبناء المهنة الواحدة. اتصلت بالطبيب المرسل وسألته نفس السؤال عن الفيديو المرسل وشعر بالخجل من نفسه، لأنه كما اعتاد دائمًا أن يرسل دون لحظات للتفكير أو المحاكمة المنطقية ولكن هذه المرة في صلب اختصاصه العلمي والمهني.
طلبت منه أن يقدم تعليقًا أو تعقيبًا على ذلك الفيديو. لأنه سيكون له تأثير سلبي في المصداقية كونه أرسل من مختص، وقد وعد بذلك. لكنه لم يفعل، رغم أنه أحيط علمًا. وأنا كذلك لم أعلق على الفيديو مباشرة واكتفيت بإرسال مقاطع أخرى تبين بشكل علمي عمل الفايروس.
لكن هذا الطبيب البشري رغم ذلك مازال مستمرًا في إرسال الفيديوهات والمقاطع دون أية محاكمة عقلية نقدية. وكأن شيئًا لم يكن. والأنكى من ذلك أن طبيب الأسنان المشترك معنا في نفس المجموعة أرسل أول أمس فيديو يدعي صانعه أنه لا يوجد فيروس أصلًا وأن هذه لعبة. وأن هذا نتيجة استخدام غاز جديد مشتق من السارين.
أنا مازلت في انتظار تعليق من أحد الطبيبين أو الصيدلي. وأنا أشعر بخيبة الأمل. من الأموال التي أنفقها مجتمعنا على حشو رؤوس هذه الفئة من المتعلمين والجامعيين بالمعلومات دون تعليمهم التفكير، ودون بناء العقل النقدي الذي هو أساس العلم الحديث. إن كارثتنا أكبر بكثير من فايروس كورونا الذي سينتهي خلال أشهر مثله مثل كل الفايروسات التي هاجمت البشر من قبل. ولكن كم عقد من السنين نحتاج للقضاء على آفة غياب المنطق والتفكير المنطقي إذا ما قررنا مواجهتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى