النهوض قرار اجتماعي ، إذ لا يمكن لنهوض حضاري أن يتحقق بغير كسر للقيود، والانعتاق من أجل الانطلاق، وأحياناً ننعتق جسدياً لكن لا ننعتق فكرياً بآلية التفكير التي تؤدي إلى طريقة العمل، وهي المسؤولة عن النتائج ، وإصلاح النتائج يكون بإصلاح الفكر، وهو المسبب الأول للنتائج، فكم من طليق الجسد مكبل الفكر، وكم من أسير الجسد حر في الفكر، وعندما لا تعطي الشجرة ثماراً جيدة فالمنطق أن نبحث أولاً عن الانطلاقة الأولى، والسبب الأول للنتائج، وهو الجذر والوسط المغذي له، فما يأخذه الجذر، على أساسه تكون النتيجة، لذا ففي القحط تنعدم الثمار، وبالأعشاب الضارة تتأذى النتائج، وهكذا القانون الطبيعي في هذه الدنيا، وهكذا هي حياة الشعوب والمجتمعات ونتائجها.
هذا الموضوع لا يحتاج إلى مقدمات كثيرة سوى استدعاء الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي عشناه في القريب، الماضي والحاضر ليتمكن من تقديم الأدلة المطلوبة، ويعين على استدعاء الشواهد والمسببات للنتائج الصعبة والكارثية التي نعيش، من اجل أن نلمح مسببات ينبغي تجاوزها، وتكثر المسببات لكن لنقف على أبرزها فالأفكار التي تصنع بداخلك ضجيجاً هي التي يمكن أن تصنع فارقاً في تفكيرك. أولًا: تركة التخلف والاستبداد التي ماتزال ضاربة بجذورها في المنطقة، والتي لم تُقتلع بعد، بشكل كامل عن المجتمع الذي نعيش، في شتى جوانبه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والأخطر ضمن هذا الأمر هو الغفلة عن ذلك، وعدم السعي للخلاص والإهمال الشديد لأولوية التنمية البشرية بكل مناحيها وتطوير القدرات والطاقات الخاملة على أسس سليمة.ثانياً: الخوف من الاجتهاد بكل صوره الدينية والسياسية والاقتصادية والفكرية والعجز عن مواجهة المعضلات المتصلة بالجوانب التي نحياها والتي تتطلب شجاعة وإقداماً، فربما تحرر الجسد لكن الفكر مازال في تركة الماضي والحالة التقليدية.
ثالثاً: الانجرار لتقليد الاتجاه الأسهل دوماً في الإبداع الثقافي والإعلامي والسياسي، واستجلاب المنتجات الجاهزة والمتاحة وللأسف التالفة والرخيصة والتي لم ولن تنتج نتاجاً جديداً.
رابعاً: الذهول أمام تدافع حركة التقدم من حولنا وتدفق المعلومات بسيطرة عوامل الثورة العلمية والثورة التكنولوجية والمعلوماتية والميديا بصورة متوالية عجيبة ومدهشة وعدم امتلاك ناصية المعرفة الدقيقة والمتخصصة في التعامل مع هذه الثورة، والتغيير الذي طرأ في العالم بهذا الشأن، وبالتالي استعصاء الفهم والعجز عن المتابعة سوى في حالات التابع لما يمليه المتبوع، ويوجهنا لا شعورياً لتوجهات محددة في التفكير .
خامساً: انعدام رؤيتنا اليقينية أو الاستشرافية الدقيقة للمستقبل بصورته المبسطة والمتحررة من العقد ورُهاب التغيير، بل نبقى في الحالة الرغبوية واللاواقعية، والرفض الدائم للاعتراف بالفشل مهما بلغ الفشل فينا مداه.
سادساً: استحكام مشاعر الخوف و عقد النقص تجاه هيمنة الحضارة الغربية وسيطرة ذلك على التفكير وصلب التاريخ هو تغيير يحصل في الواقع فتحصل استجابة لهذا التغيير لدى الإنسان تهيمن هذه الاستجابة لفترة ليتخلص منها ولهذا فهذه الذهنية المسيطرة بحكم التاريخ القريب من السيطرة والنفوذ، وتحكّم عوامل الإحباط والمسلّمات فينا والجائرة مثل مقولة ” ليس في الإمكان أفضل مما كان “
سابعاً: الاستهانة بالوقت وعامل الزمن في كل الأمور واللامبالاة الدائمة تجاه فقدان الأشياء كبيرة أو صغيرة، لا نقدر قيمتها أو حتى لا نشعر بالخسارة دون أن نحاسب ونسأل لماذا.؟ بينما الآخر يخطط وعلى المستوى الشخصي لكل ما يمكن إنجازه أو يجب أن يفعله على مدار الأيام والأسابيع والشهور وامتداد العام ولا يستهين بوقت يضيعه من نفسه أو يفرض إضاعته للآخرين ونحن بزمن التدفق الكبير للمعلومات والسرعة في الأحداث والتعقيدات والتداخلات الكبيرة، وبات يطلب منا الحرص الأكبر للإحاطة بالوسط الحضاري المتقدم والعطاء في ظل هذا الوسط، فنحن كمن يسير على رمال متحركة معاكسة، فالوقوف يعني التراجع للوراء، ولابد من اتقان السير على الرمال المتحركة التي تعاكسنا.
ثامناً: الدهشة من التجارب العظيمة الإنسانية القائمة في البناء والنهوض الحضاري فنستصغر أنفسنا ونكرس حالة التابع، وأن التابع يتلقى وحسب ولا يقدم ويعطي .
ولا نستطيع أن نستفيد من هذه التجارب العظيمة بل نحاول أن نطلق عليها العديد من الأوصاف المعادية لنخلص أنفسنا من حالة العجز والخمول لنرمي السابق بتهم شتى، فنكون كمن عجز من أن يطول العنب فيقول: أنه حامض!
تاسعاً: عقلية التابع دوماً المسيطرة فنحن نتفاعل مع الأحداث أكثر من أن نصنعها وأحياناً ننتظر الحدث وما سيحدث من نتائج، وربما بدأت عقلية الشباب اليوم بالتغير عن هذه الحالة.
عاشراً: غياب الادراك للمصلحة لاسيما إذا كانت في دائرة المكروه وغير المقبول وخلاف الخيار السهل الذي يتوافق مع تفكيرنا ومشاعرنا، فالتغيير والنهوض ينزع نزعاً ولا يُتحصل بسهولة ويسر ولهذا تتمايز الهمم وتظهر عوامل النهوض ويبرز روّاد النهضة.
قد تطول الأسباب لكن الملامح العشرة في المسببات هي الأساس في النهوض وكسر القيود والانعتاق لأجل الانطلاق.
المصدر: إشراق