خمس جولات للجنة الدستورية، غلبت الصفرية على نتائجها، وما من حلول تلوحُ في الأفق، ومع عودة مسار أستانة للانتعاش مُجدداً، والمخاوف من تبدلات جيوسياسية جديدة. فإن الراهنية الجغرافية لسوريا تشهد حيرةً لجهة المستقبل والقادمات من الحلول التي لا طابعَ سورياً عليها، بمقدار ما هي توجهات وترسيم دولي للغد السوري. وهي عملية تحصيل حاصل في كل منطقة تخضع لقرار الدول ذات الشأن والفعل فيها داخلياً وخارجياً.
فالمشهد السياسي والميداني والعسكري، وكنتيجة للحرب المستمرة في سوريا منذ 2011، شهد تحولاً في بنية الصراع أدى إلى تقليص دور وفعالية العنصر المحلي بشكل كبير، لقاء دور ونفوذ دولي مباشر. وأيضاً تلاشى لدرجة كبيرة دور الفصائل المسلحة والمعارضة في توضيح مستقبل البلاد. مقابل تزايد مباشر في النفوذ الدولي عسكرياً وسياسياً وإدارياً. ولم تعد الساحة السياسية تشهد وفرة في الأجساد السياسية والعسكرية، فهي دُجنت في أجسام رسمية لتقوم بوظائف وأدوار محدودة. إضافة إلى التقسيم الجغرافي غير الرسمي حالياً، فروسيا المتغولة سياسياً وإدارياً وعسكرياً واقتصادياً، تمتلك ناصية القرار في المعادلة السياسية في سوريا، وتم نسف مبدأ، واحد مقابل واحد، في المعادلة السياسية السورية، أي منصة النظام مقابل منصة الائتلاف. بل خُلقت العديد من المنصات سواء المعارضة منها كمنصات موسكو، القاهرة. وهيئة التنسيق، ثم مشاركة المجلس الكردي كجسم مستقل وما شكلوه معاً من هيئة التفاوض بالرغم من حجم الخلافات حول تمثيل المستقلين عبر شروط الرياض وحصر هذه الكتلة بمن حضر مؤتمرها، ورفض هيئة التفاوض والائتلاف لذلك. والخلافات التي تشهدها منصة القاهرة حول تمثيلها ضمن اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض.
أو ما شكله مجلس سوريا الديمقراطية من منصة داخلية وإن بدت هشّة وغير منسجمة مع التوجه الدولي، وحضورها في تلك المحافل، خاصة وأن مسد كانت و مازالت تحاول أن تثبت نفسها كطرف أو كعضو ضمن جسد على الأقل في مباحثات جنيف، التفاوض، الدستور، ووجدت مساعيَ أميركيةً لذلك، لكنها لم تحظَ بالنهايات السعيدة. وهي لا تزال على استعداد للحضور فيما لو طلب منها أو وافقت الأطراف على طلبها بالحضور. وكبديل عن ذلك فإن “قسد” في الوقت الحالي ترسل إشارات واضحة للمشاركة في المجلس العسكري الانتقالي الذي يرغب مناف طلاس في الإعلان عن تأسيسه، مشترطة وجود جسم سياسي له ومشاركة كلّ الأطراف فيها. رسالة قسد واضحة، خاصة إذا ما دمجت مع مساعي مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” لتشكيل منصة سياسية تضم شخصيات مستقيلة أو مبعدة عن الائتلاف السوري، وقسم من منصة القاهرة، ومنصة موسكو وتالياً فإنها تسعى لتكون الممثل السياسي للمجلس العسكري الانتقالي، وهو ما سيتطلب دمج الجسم السياسي الذي يسعى فراس طلاس لتشكيله، مع مجلس سوريا الديمقراطية. كُل ذلك جعل من اللوحة السياسية والعسكرية في مكانة لا تحسد عليها، ومن شبه المستحيل أن نجد الفرقاء السياسيين والعسكريين منسجمين على طاولة حوارٍ واحدة.
بالمقابل تشهد الجغرافية السورية تقسيما يخضع لنفوذ ثلاث قوى، شمال غرب سوريا تابعة للمعارضة السورية وتركيا، شمال شرق سوريا خاضعة لسيطرة أميركا وقسد، جنوب غرب سوريا خاضعة لدمشق وموسكو، دون أن تعترض الأخيرة على إذا ما رغبت إسرائيل في تنفيذ ضربات عسكرية. ويقف المجلس الكردي حائراً ما بين فتح مقاره ومكاتبه في مناطق غصن الزيتون ونبع السلام، ومابين تتمة الحوار مع قسد وأحزاب الإدارة الذاتية في ظل نسف خطوات بناء الثقة بينهما. فإن بقاء المجلس دون اتخاذ موقف حاسم من مجمل الأحداث التي تجري، ستجعل منه هشّاً ومُنهاراً، والأسوأ أن البعض من المجلس الكردي المقرب من دوائر القرار السياسي، متأثر بما يجري على صفحات السوشيال ميديا.
وتالياً، لم تعد هناك مناطق حصار وتجمعات معارضة متفرقة أو متعددة لذا فإن النفوذ الدولي والإقليمي هو الأكثر وضوحاً. ما أضاع القرار السوري وسط تشعب الوجود الدولي، وإلزام الخارج للداخل بتنفيذ مخططاتهم وتقليص دورهم في اتخاذ القرار المناسب لمستقبل سوريا، ما يعني صعوبة توصل الأطراف السورية إلى قرار عام داخلي، في ظل كل هذه الجيوش في المنطقة. فلا تزال الحدود مقسمة أمنياً ولم تتحول إلى سياسية وإدارية ثابتة. وفي ضوء هذا المشهد، تتشابك وتتعارض الأصوات مابين المطالبة بالفدرالية -اللامركزية السياسية و/أو الإدارية، ومابين المطالبين بالاستمرار في مركزية الحكم وتفعيل مبدأ المواطنة كمشروع جامع على حد وصف مناصري هذا الطرح. وتتعرض الفدرالية المطروحة لبعض المشكلات منها عدم وضوح المناطق الجغرافية وحدودها الإدارية، ومنها المخاوف من التقسيم دون إغفال عدم الفهم العميق لقضية اللامركزية السياسية التي تحمي سوريا كلها من الانقسام والانفصال على صعيد الشعب والجغرافية والبلد الواحد. مع التأكيد على أن الفدرالية/اللامركزية لا يجوز أن تكون نابعة أو خاضعة لمنطقة جغرافية واحدة، إذ استحالة أن تكون هناك فدرالية لمنطقة جغرافية مستقرة دون توافق وإجماع وطني.
لا يزال السوريون يبحثون عن مرحلة ما بعد الصراع، وهي النقطة التي يتوجب الانتباه إليها، فدول عديدة خرجت من النزاعات واتفقت على شكل حكم خاص وضمن وحدة أراضيها، زرعت الثقة وأنهت التشنجات الاجتماعية، ومنعت أيّ اشتباك بين القواعد الاجتماعية الموجودة. لذا فما يحتاجه السوريون جميعهم هو المزيد من التعمق في تحليل اللامركزية من حيث الوظائف السياسية والأمنية والمالية والتنموية ومراقبة الأسس الدستورية والقانونية للامركزية الإدارية والسياسية في سوريا، عدا العلاقة بين اللامركزية السياسية والحوكمة، وهل من إمكانية أن تكون الدولة لا مركزية سياسية مع مركزية إدارية؟
وكما أن الصراع الدولي حول سوريا، أدى إلى تقاسم الخارطة الجغرافية، وتالياً توزيعها إلى مناطق نفوذ، فإنَّ الخلاف حول الفدرالية وطبيعة طرحها والهواجس منها، أيضاً أدى إلى خلق رأيين متنافرين حول الطرح، حيث تكون اللامركزية ضرورة لبعض الجماعات الأهلية في سوريا من خلال فكرتها الجوهرية التي تقوم على توزيع السلطة وأدوات الحكم بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، كضامن لعدم إعادة خلق دكتاتوريات جديدة، وبالمقابل يؤكد هذا التأصيل أن التحول إلى النظام اللامركزي بشكل كامل، أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر لبعض الجماعات الأهلية التي تخشى أن يؤدي إلى التقسيم، على الرغم من أن هذا الشكل من النظام رُبما يحمل حلاً للجزء الأكبر من مشكلات الدول النامية كالدول العربية المركبة مثلا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا