اشتعلت في الشارع السوري قبل اسبوع ثورة غضب عارمة على المبعوث الأممي غير بيدرسون ، حين فاجأ هذا العالم بصك واستعمال مصطلح سياسي جديد ، في إحاطته الشهرية أمام مجلس الأمن الدولي يوم 23 ديسمبر الجاري لم يرد سابقا في أي وثيقة ، أو مذكرة رسمية أو معتمدة ، من وثائق الأزمة السورية، ولا حتى في أي تصريح سابق لأي مسؤول دولي هو مصطلح (العدالة التصالحية) الذي فهمه السوريون فورا ، كإشارة ملتبسة أو اتجاه الى إمكان الذهاب الى مصالحة ، بين نظام الأسد وقوى الثورة والمعارضة ، برعاية الأمم المتحدة والمجتمع الدولي .
غضب الشعب السوري تجاه بيدرسون مفهوم ومبرر ، طبعا ، ويعكس مشاعر متعددة من التوجس والارتياب والحذر بسبب فشل المبعوثين الاممين الأربعة على مدى عشر سنوات ، لا سيما أن التصريح جاء بعد ثلاثة أسابيع من قرار أصدره رئيس ائتلاف قوى المعارضة يعلن إنشاء مفوضية للانتخابات ، فهمه السوريون مؤشرا على نية للمشاركة في انتخابات الرئاسة القادمة التي يستعد الطاغية لإجرائها في منتصف العام القادم كما فعل عام 2014 ليجدد شرعيته الساقطة منذ 2011 باعتراف 130 دولة .
ويزداد الأمر وضوحا إذا تذكرنا أن المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا خلَّف لدى السوريين انطباعات سلبية وارتيابية بسبب “إبداعاته” الفنية والسياسية خلال تنفيذ مهمته وطريقته الخاصة ، لتطبيق قرار مجلس الامن 2254 سبيلا الى الحل السياسي الموعود . إذ أنه تعاطى مع الأزمة ، كما لو أنها أزمة مجتمعية ، لا سياسية ، فأراد أن يعالج مشكلة الظلم الاجتماعي الموروث على المرأة قبل أن يعالج مشكلة القتل اليومي للسوريين على يد النظام السفاح ، وقبل محاسبة مرتكبي جرائم الإبادة . وأراد اعداد دستور جديد للبلاد ، قبل اجراء انتقال سياسي وترحيل النظام ، وتأسيس هيئة الحكم الانتقالي ، وقبل ضمان تسليم الأسد للسلطة . وديي ميستورا هو الذي أدخل ايران الى دائرة الدول التي يتعاون معها في ايجاد حل سياسي ، واقتفى بيدرسون اثره ، وصارا يحجان الى “قم” في كل جولة من جولاته الكثيرة ، وقبل أي عاصمة أخرى . ومن يقرأ لائحة العواصم التي زارها بيدرسون في جولته الأخيرة يساوره اعتقاد بأنه عاقد العزم على زيارة البرازيل وفنزويلا واستراليا وايسلندا في الجولات القادمة ، بحثا عن الحل السحري للأزمة السورية المستعصية ، وهو للعلم يعرب باستمرار عن تفاؤله وثقته ببلوغ الحل في سورية بالقياس الى سرعة النجاح في محادثات اللجنة الدستورية التي لم تعقد اجتماعا واحدا جادا منذ أن تاسست قبل أربعة أعوام ، دون أن يكشف مصدر تفاؤله الغامض والمتناقض مع واقع الحال !
ويتساءل السوريون منذ أسبوع عما إذا كان حديث بيدرسون عن ( العدالة التصالحية ) زلة لسان ، أم خطأ غير مقصود في الترجمة كما زعم ؟ أم خطيئة مقصودة ، عن سابق عمد وترصد ، بهدف قياس ردود أفعال الشعب السوري ، واقحام مفهوم (المصالحة) الى أدبيات ووثائق الأمم المتحدة المتعلقة بالأزمة السورية ؟
المغزى والمعنى كامنان في قلب “الشاعر” كما يقال ، لذلك ينبغي البحث عنهما في قاموس بيدرسون على ضوء تجربته المهنية في فض النزاعات الدولية الذي احترفه ، وفي سجل خدمته ، ومسيرته المهنية ، يمكن أن يساعدنا في الفهم .
غير بيدرسون دبلوماسي نرويجي ، له سجل خدمة متواضع ، خال من إنجازات مثيرة . هو خريج مدرسة ديبلوماسية تتبع فلسفة (الديبلوماسية الصامتة ) أي الهادئة والخافتة والبطيئة . كانت بداية خدمة بيدرسون في الخارجية النرويجية في ( مفاوضات اوسلو ) السرية بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 . وبعد توقيع الاتفاق أرسلته حكومته الى الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وظل أعواما ممثلا لها لدى السلطة الفلسطينية ، لأن النرويج تتحمل جزءا غير قليل من المسؤولية الأدبية عن نجاح أو فشل الاتفاق الذي حمل عنوان ( غزة – اريحا أولا ) كما هو معروف ، ويقول محتواه : أجلوا النظر في المسائل المعقدة الى المرحلة الأخيرة من عملية السلام ، وابدأوا بالمسائل الهينة والصغيرة ، من دون اي ضمان للنجاح في حل المسائل المعقدة لاحقا .
ولقد فشلت فلسفة أوسلو قبل أن يفشل اتفاق أوسلو ، وتحول كلاهما كارثة على رؤوس الشعب الفلسطيني ، ومكسبا صافيا لاسرائيل .
بعد ذلك خدم بيدرسون سفيرا لبلاده في الأمم المتحدة ، وخدم في جنوب لبنان بعد حرب 2006 مندوبا للأمم المتحدة بين لبنان واسرائيل ، أي محاولة جديدة لصنع سلام بين جلاد وضحية كسابقه بين الفلسطينيين واسرائيل بلا قاعدة صلبة .
هذه المسيرة المهنية للرجل تعني أن الرجل يتبنى فلسفة تفاوضية بائسة ، تحاول تكريس ما أنجزته الغطرسة والقوة الهمجية ، واضفاء الشرعية على ما حققته ميدانيا ، وتمرس في نوع من المفاوضات السرية بعيدا عن المراقبة ، تساعد على تكريس السلوك الهمجي للمستعمرين والمستبدين .
في ضوء هذه الصورة الشعاعية لشخصية بيدرسون يمكننا الجزم أنه قد عنى ما تعنيه عبارة (العدالة التصالحية) بالعربية ، كما فهمها ثوار سورية ورجال القانون ، لا في الاسبوع الأخير فقط ، بل منذ أن اختاره غوتيريش مبعوثا للمنظمة الدولية العاجزة والفاشلة طوال جهودها منذ 2011 والى 2021 ، إذ لم يكن أحد في الكون كله يتوقع أن يأتي بيدرسون بما لم يأت به كوفي عنان والأخضر الابراهيمي وهما أكبر من بيدرسون وأكثر حرفة ومهنية ، بل وأكثر من دي ميستورا !
إن الديبلوماسي النرويجي الضعيف بتقدير جميع الذين عملوا وتعاملوا معه ، إنما جاء ليكمل ما خربه سلفه الايطالي الذي سخر مما أكتبه ضده حين قابلته مطلع عام 2015 ، وقال لي مبتسما : أرجوك استمر في مهاجمتك لي ، لأن ذلك يعزز رصيدي عند بشار الأسد الذي أسعى دائما لتخويفه من عقابيل جرائمه ، ودفعه للتوقف عن جرائمه الرهيبة ! فقلت له : ستفشل حتما ، لأن ديبلوماسيتك هذه غير قابلة للتأثير في ديكتاتور مثل بشار الأسد تحميه روسيا وايران !
المصدر: المدار نت