يواجه شباب محافظة دير الزور، إحدى أفقر المناطق بسوريا وأكثرها تقلباً واضطراباً، تحدياً جديداً يتصل بأرزاقهم إلى جانب كثير من المشكلات الأخرى، وعلى رأسها البطالة والتضخم والعنف، حيث تأتي عملية التجنيد الإجباري ضمن قطعات عسكرية مرتبطة بقسد التي تدعمها الولايات المتحدة لتزيد لمعاناتهم معاناة جديدة.
وعبر مقابلات جرت من خلال تطبيق واتساب، تواصلت ألمونيتور مع ثمانية من أهالي دير الزور في بحر الأسابيع الثلاثة الماضية، كان بينهم عمال مياومون، إلى جانب أصحاب المهن الرفيعة، فوصف لنا هؤلاء كيف زادت عمليات الاعتقال من أجل التجنيد الطين بلة بالنسبة للمدخول، حيث أسهمت إما في قطعه أو على الأقل خفضه. ويرى هؤلاء بأن عملية التجنيد الإجبارية تمثل عبئاً لا داعي أن يتحمله الشباب الذين بالكاد يستطيعون تأمين قوت أسرهم وعائلاتهم. كما أن الراتب الهزيل الذي يقدم للمجندين، والذي يمثل جزءاً صغيراً من رواتب المتطوعين من الجنود، قد أثار حالة سخط عارمة.
وعن ذلك يخبرنا جندي سوري منشق عن النظام في الريف الشرقي لدير الزور، فيقول: “لا يمكننا أن نجد عملاً أو أن نعيل أسرنا، والآن يطلبون منا أن ننخرط في التجنيد. إذ لو كنت أريد ذلك لبقيت مع نظام الأسد”.
هذا وتعتبر دير الزور خزان البلاد بالنسبة للنفط، غير أن أهالي هذه المنطقة لا يستفيدون من الثروات الطبيعية التي تحيط بهم. ولهذا خرجت العديد من الاحتجاجات ضد ضعف خدمات البلدية وحالة الفقر التي عمت المنطقة. كما أن نقص الوقود جعل الأهالي يعيشون في برد طيلة فترة الشتاء في منطقة البادية تلك، سنة إثر سنة، وذلك لأن المهربين يقومون بتهريب النفط ونقله خارج تلك المحافظة.
ويحدثنا عن هذا الوضع صحفي من أبناء قرية عزبة في هذه المنطقة، وهو رجل في منتصف العمر اختار اسم عامر ليخفي شخصيته الحقيقية وليعبر عن آرائه بحرية، شأنه في ذلك شأن بقية الأهالي الذين أجرينا معهم مقابلات من أجل هذه المقالة، فيقول: “لقد قطعت عملية التجنيد الإجبارية الأرزاق وجعلت النوم يجافي عيون الناس طيلة الليل.. ثم إن غالبية الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية تتراوح أعمارهم بين 18-30 ومعظمهم متزوجون”.
يذكر أن السلطات الكردية في شمال شرقي سوريا أصدرت أول قانون للتجنيد الإجباري في منتصف عام 2014، ففي ذلك الحين، كانت وحدات حماية الشعب الكردية التي تمثل نواة قسد، تحارب تنظيم الدولة الذي كان في أوج قوته. وبعد تمكن قسد من إخراج تنظيم الدولة من شمال شرقي سوريا بدعم أميركي على مدار السنوات الخمس التالية، أتت عملية التجنيد الإجباري لتشمل مناطق ذات غالبية عربية، حيث شمل ذلك أجزاء من محافظات حلب والرقة ودير الزور. وبعد فترة انقطاع امتدت لثلاثة أشهر بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا، واصلت حواجز التفتيش والدوريات توقيف الشباب من أجل الخدمة الإلزامية خلال الصيف الماضي.
هذا ويعتبر المكتب المسؤول عن مهام الدفاع الذاتي والذي يعرف باسم الخدمة الإجبارية، جزءاً من الإدارة الذاتية المرتبطة بقسد، وليس جزءاً من قسد نفسها، غير أن العديد من الأهالي الذين تحدثنا إليهم تجاهلوا هذا الفرق، وليسوا وحدهم من قام بذلك، بل سبقهم الإعلام الرسمي لقسد الذي يروج مادة حول الدفاع الذاتي وفيها تظهر دفعة من المجندين وهم يؤدون عرضاً عسكرياً تحت راية قسد بحضور زعمائها وقادتها، بالرغم من أن الجنود من كلا الفريقين يحاربون على الجبهات ذاتها في بعض الأحيان.
وبالعودة لكل ما يجري اليوم، صار أحمد يمر بحاجز عسكري على الأقل إلى ثلاثة حواجز خلال تنقلاته داخل محافظة الزور ابتداء من الكسرة وحتى الزغير، حيث يعمل هذا الشاب لدى منظمة إنسانية محلية. وعندما تكون الشرطة العسكرية هي من يرابط على نقاط التفتيش، عندها من المحتمل أن تقوم باعتقال أحمد حتى تجنده في الخدمة العسكرية، ولهذا يضطر أحمد للالتفاف بعيداً عن ذلك الحاجز وبذلك يخسر ما يحصله بصورة يومية حسبما ذكر لألمونيتور، وأضاف: “أتغيب عن العمل أحياناً يومين في الأسبوع، وأحياناً أكثر، وأحياناً أقل، فإذا استطعت تجاوز الحواجز، والدخول إلى قرية قريبة بعيداً عنها، عندها يمكنني الوصول إلى عملي، إذ قليلاً ما أتمكن من المداومة طيلة أيام الأسبوع. ولكن عندما تصبح حواجز التفتيش كثيرة، عندها لا أستطيع الذهاب إلى العمل طيلة أسبوع كامل”.
وعندما سئل كيف يتعامل مع ما خسره من راتبه، قال: “لم نعد نأكل كثيراً” وهو يعني بذلك زوجته وابنه، ويتابع بالقول: “أصبحنا نفضل شراء الأغذية الأرخص، مع اقتراض المال من الأصدقاء، على أمل أن أتمكن من سداد تلك الديون.. لا أستطيع أن أنخرط في الخدمة العسكرية كمجند، إذ لدي أسرة علي أن أعيلها، ثم إن راتب المجند لا يساوي شيئاً”. يذكر أن الراتب يعادل 50 ألف ليرة سوريا، أي ما يعادل 17 دولار تقريباً بسعر السوق السوداء خلال الشهر الماضي.
حتى شهر كانون الثاني الماضي، ظل طارق يقوم بتوصيل الطلبات مع نقل الركاب بواسطة دراجته النارية، في حين يقوم شقيقه بصنع الحلويات في سوق القرية. ويخبرنا طارق من الريف الشمالي لدير الزور عن تجربته فيقول: “لقد قتل شقيقي الثالث في غارة جوية، فأصبح أولاده يعيشون معنا تحت سقف واحد، بعدما توفي والدانا. وفي الشهر الماضي، وبينما كان شقيقي يفتح محله قامت دورية بجولة في السوق فأخذته للتجنيد الإجباري. كان قد وضع الحلويات في الفرن، فترك كل شيء في مكانه، وهكذا احترقت الحلويات، فرميت بكل ما لم أستطع إنقاذه وأغلقت المحل لأنني لا أعرف أن أصنع الحلويات مثلما يفعل شقيقي.. إننا نربي أيتاماً، وبالكاد كنا نستطيع تغطية جزء من نفقات البيت قبل أن يعتقل أخي”. وبما أن طارقاً خسر الدخل الذي يؤمنه شقيقه، لذا فقد غدا غير قادر على التعويض عن ذلك عبر توصيل الطلبات بواسطة دراجته النارية، وذلك لأن السلطات المحلية منعت مؤخراً المركبات لأنها تستخدم في عمليات الاغتيال، ويعقب طارق على ذلك بالقول: “أصبحت اليوم أقوم بتوصيل الطلبات سيراً على الأقدام، بعدما أجلب البضاعة من السوق”.
وفي السادس والعشرين من شهر كانون الثاني الماضي، منحت الإدارة الذاتية الشباب فترة سماح مدتها 30 يوماً حتى يراجعوا مركز التجنيد الإجباري ويحددوا أهليتهم للتجنيد، وقد تراجعت وتيرة الاعتقالات في دير الزور بعد ذلك حتى لحظة كتابة هذه السطور.
وحول هذا الموضوع يخبرنا عامل في منظمة غير حكومية يعيش بالقرب من الضفة الشرقية لنهر الفرات، فيقول: “لم يصدر أي قرار لمنع حملة التجنيد الإلزامي. ولكن منذ 14 يوما، لم تقم السلطات باعتقال الناس كما توقفت الدوريات المخصصة لهذه الغاية. لست أدري لذلك سبباً، ثم إننا نخشى مما يمكن أن يأتي بعد هذا الهدوء”، يذكر أن هذا الشاب أدلى بتصريحه هذا في 13 شباط من العام الحالي.
يذكر أن قانون التجنيد الإلزامي الصادر في عام 2019 يشتمل على مواد تهدف إلى التخفيف من الضرر الاقتصادي الذي يحمله هذا القانون، مثل الإعفاء الذي يمنح لمن يعيلون أسرهم. وعملياً، اشتكى الشباب الذين تحدثوا إلينا من نقص الموارد المالية، وشكوكهم حيال ما يؤهل المرء للحصول على إعفاء، وخوفهم من الاعتقال الذي يمكن أن يحرمهم من فرصة مراجعة مركز التجنيد.
وحول ذلك يخبرنا محمود وهو موظف لدى منظمة غير حكومية من الريف الشرقي لدير الزور فيقول: “إن الحصول على إعفاء ليس بالأمر المضمون، وذلك لأن المسألة صعبة وتكلف الكثير من المال. ثم إن الناس فقراء، كما أننا نخشى أن يقبضوا علينا في حال قمنا بالمراجعة”.
ويخبرنا عن ذلك أحمد العامل في المجال الإنساني الذي يتفادى المرور بالحواجز والذي يعيش في الكسرة فيقول: “سمعت أنه بوسع النازحين القادمين من خارج مناطق سيطرة قسد الحصول على بطاقة وافد وهذه البطاقة تعفيهم من الخدمة العسكرية. ولكني لست أدري إن كان بوسعي الاستفادة من هذه البطاقة، ثم إن مشكلتي تكمن في عدم قدرتي على تحمل تلك المخاطرة، ولهذا أخشى أن يأخذوني وعندها ستنتهي هذه اللعبة”.
إلا أنه لم يتضح سبب إصرار السلطات في شمال شرقي سوريا على الخدمة الإلزامية، وهل المقصود من ذلك ملء الفراغ في القوات العسكرية، وبناء هوية سياسية مشتركة أم تحقيق أهداف أخرى؟ بيد أن زيدان العاصي وهو أحد القائمين على مكتب الدفاع في الإدارة الذاتية لم يجب على الأسئلة التي طرحناها عليه وانتظرناه ليعلق عليها عبر تطبيق واتساب.
هذا ويصور القانون الأصلي الذي صدر في عام 2014 التجنيد الإجباري كواجب لحماية شرف أهالي تلك المنطقة وحريتهم ووجودهم، وقد صدر هذا القانون عندما كانت القوات الكردية تشن هجوماً باسلاً ضد داعش في معقلها الأخير بمدينة كوباني.دأدر واليوم تسيطر قسد على معظم المناطق في شمال شرقي سوريا، وقد أبدت مرونة كبيرة في مواجهة العمليات العسكرية التركية المتكررة، إلى جانب مواجهتها لعودة تنظيم الدولة وما يمارسه نظام الأسد، من أعمال تقوض استقرار المنطقة الشرقية.
ولكن عندما تعرضت الموارد الاقتصادية للتهديد، قدم العديد من الشبان تفسيرات ناقدة لسبب استمرار التجنيد الإلزامي، فالسلطات تحاول أن تدخر المال، إذ يقول وليد وهو عامل مياوم من ريف دير الزور الغربي: “يرى معظم الناس بأن حملة الاعتقالات من أجل التجنيد الإجباري تتصل بالرواتب.. إذ هنالك فرق بين 300 ألف و50 ألف ليرة سورية” إذ يمثل المبلغ الأول الراتب الشهري الذي يمنح للمتطوع، والثاني للمجند.
أما عمر، وهو معلم في مدرسة بريف المدينة الشرقي، فقد أكد تلك الفكرة بقوله: “في حال فتح باب التطوع أمام الجميع اليوم، فلابد أن ينضم ثلاثة أرباع الناس الذين يعانون من البطالة.. بالتأكيد سيفعلون ذلك، فهم يريدون أن يعيشوا قدر استطاعتهم”.
وقد أصبح اليوم عمر مؤهلاً للانخراط في الخدمة العسكرية بعد صدور القرار الذي أثار الكثير من الجدل في كانون الأول من عام 2020 والذي يحتم على المتعلمين أن يؤدوا خدمة العلم، إلا أن عمراً يعلق على ذلك بالقول: “من غير المنطقي أن تدفع الجميع لحمل السلاح، مثل الطبيب والميكانيكي والكهربائي والمعلم”.
وخلال العام المنصرم، قام الناطق الرسمي السابق باسم التحالف الدولي الذي تترأسه الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة بنشر تغريدة تشتمل على فيديو يظهر ما يحدث للمجند الأميركي عند: “الاحتفال بتخريج دفعة من مجندي الدفاع في دير الزور”. بيد أن الناطق الرسمي الحالي العقيد وايني ماروتو رفض التعليق على موقف التحالف الدولي حيال الخدمة الإلزامية، وذكر لألمونيتور: “إننا نتعامل ونعمل مع شركائنا من القوات أي قوات الأمن العراقي، وقوات البشمركة وقسد على ضمان هزيمة تنظيم الدولة بشكل دائم”.
وبعد عقد كامل من الحرب في البلاد، لم يعد بعض الشبان يريدون إلا أن يبقوا على الهامش، إذ يقول وليد: “خلال الثورة، رأينا الكثير من الألوية والكتائب، حيث قام الجيش السوري الحر بمعاقبة من كانوا مع النظام، وقام تنظيم الدولة بمعاقبة من كانوا مع الجيش السوري الحر، كما عاقبت قسد من كانوا مع تنظيم الدولة، لذا يمكن لمن هم مع قسد اليوم أن يتعرضوا لعقاب من قبل النظام أو من قبل الجيش السوري الحر مستقبلاً، ثم إنني لست معارضاً للإدارة المحلية، بل على العكس، أراها جيدة.. بيد أن المشكلة تكمن في أن الناس يكافحون من أجل العيش، والتجنيد الإلزامي يسحقنا”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا/ ألمونيتور