أميركا وسورية العربية

د- عبد الناصر سكرية

منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في سورية قبل عشر سنوات سعيًا وراء التخلص من نظام الإجرام والتبعية والفساد، ظهرت أصوات سورية كثيرة ناشطة تنظر بعين المودة إلى السياسة الأميركية في المنطقة العربية انطلاقًا مما روجته تلك السياسة منذ أوائل تسعينات القرن العشرين خصوصا؛ عن دعمها المتجدد للديمقراطية في المنطقة والعالم وعن توجهها إلى محاربة الأنظمة الدكتاتورية لاستبدالها بأنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان. منذ تلك الأيام التسعينية روج الإعلام الغربي الأمريكي والموالي له لما أسموه هجمة ديمقراطية لا بد أن تسفر عن تغيير وجه العالم لصالح عصر عالمي جديد ليبرالي حر..

في بدايات الانتفاضة الشعبية السورية جاهر كثيرون من أبنائها الوطنيين بمطالبة اميركا بالتدخل لدعم المطالب الشعبية على أساس ما كانت تعلنه دولتها وإعلامها عن خياراتها المستقبلية المتعلقة بالمنطقة ودعمها للديمقراطية فيها….ولقد صرف هؤلاء الكثير من الجهود والوقت سعيا وراء سراب التدخل الأمريكي لصالح الشعب السوري ضد نظامه المجرم..

ومما زاد في الضبابية وشيوع الأمل الزائف؛ سلوكيات أمريكية مضللة وتصريحات مخادعة، بلبلت مواقف الكثيرين وضيعت رؤيتهم الصوابية فتركتهم في غياهب الانتظار والسعي والاتصال والمطالبة والرجاء وغير ذلك..

ولعل زيارة السفير الأميركي في سورية إلى مدينة حماة في ذروة تظاهراتها المليونية السلمية؛ وتصريحاته الملفتة عن تأييد المطالب الشعبية خير مثال على تلك المخادعة واللبس المتعمد المقصود وهو ما لم ينتج عنه أي موقف عملي مناهض للنظام أو مؤيد للمطالب الشعبية..

وعلى الرغم من عدم اتخاذ أي موقف عملي يساند الشعب السوري إلا أن الإدارة الأميركية بقيت على موقفها المخادع المضلل فلا تزال تقدم ذاتها كوسيط أو طرف محايد في الوقت الذي تغض الطرف عن ممارسات النظام الإجرامية ومنها استعمال السلاح الكيماوي، ومنها التغاضي عن كل جرائمه بحق شعب بأكمله عدا عما يحدث في سجونه من قتل وتقتيل بالتعذيب الذي لا مثيل له في بلد آخر …لا بل تسهل عمل وتدخل كل الأطراف الإقليمية والخارجية التي عطلت مسيرة الشعب السوري وعلى رأسها روسيا وإيران ثم بعد ذلك تركيا. وتنشئ كيانا انفصاليا عنصريا كرديا في الجزيرة، ثم كانت مساهماتها الأساسية الفعالة في تأسيس ميليشيات مسلحة ودفعها لتلعب دور حصان طروادة لتفجير قوة الثورة من الداخل وتحريفها وتشويهها ثم تنسيبها إلى الإرهاب العالمي في سياق هدف واضح محدد ألا وهو الإبقاء على النظام وتدمير القوة الشعبية السورية وتهجير أكبر عدد ممكن من سكان مدنها العربية التاريخية..

لقد فات أولئك المتحفزين بانتظار دعم أميركي، أن النظام الأميركي محكوم بثلاث ثوابت أساسية لا يمكنه الخروج عليها في أي حال أو ظرف:

١ – التزام أمن ومصلحة وتفوق الكيان الصهيوني وهو المستفيد الأكبر من سياسة وبقاء النظام في سورية كما هو؛ حاميا لأمنها معترفا بها قامعا لأية حركة شعبية تحررية..

إذ ليس في مصلحة دولة ” الإسرائيلي ” أي تغيير في سورية لمصلحة شعبها وتحرره..

٢ – المصالح الاستعمارية العدوانية للولايات المتحدة في البلاد العربية إذ تحمي الأمر الواقع الراهن لأنه يكفل لها سيطرتها وتحكمها بخنوع سلطاته وسلاطينه. فهي لذلك تعارض كل تغيير لمصلحة القوى الشعبية في أي بلد عربي..

٣ – الأسس الثابتة للعقل الأميركي القائم على النفعية المادية المباشرة دون اعتبار لأية قيمة أخلاقية أو إنسانية أيا كانت. فلا يعنيها من يموت وكم مات وأي شعب تهجر وما مصير عشرات آلاف المعتقلين في أسوء ظروف القهر والتعذيب والتقتيل.. فالمهم عندها تحقيق مصالحها المادية وزيادة أرباحها ومداخيلها..

انطلاقا من هذه الثوابت الأميركية كان على الناشطين الوطنيين عدم إضاعة أي وقت أو جهد في انتظار دعم أميركي لم يأت ولن يأت ابدا..بل العكس هو الصحيح حيث بينت الأحداث مقدار الخدمات الجليلة التي قدمتها أميركا لبقاء النظام وإفشال الثورة. وليس أقلها أهمية؛ تأسيس داعش ورعايتها وتوظيفها المستمر. ثم تعطيل بلورة قيادة وطنية شعبية مستقلة من خلال أدواتها وأذرعها الخفية والعلنية أو من خلال أتباعها الإقليميين والمحليين..

ورغم كل ذلك لا تزال أميركا تطرح ذاتها كطرف محايد أو كوسيط حيث تواصلها مستمر بشكل أو بآخر مع أطراف وشخصيات فيما يسمى ” المعارضة “، الرسمية منها وغير الرسمية؛ موحية لهم بإمكانية تدخلها للمساعدة أو التضييق على النظام..

واللافت المؤسف أن بعض الناشطين ما يزالون في حالة انتظار لذلك التدخل الموهوم. ولعلهم استبشروا خيرا بصدور قانون قيصر فراحوا يسترسلون في تفاؤلهم بانتظار تدخل أميركي أوسع. ثم راحوا يبذلون جهودا كبيرة لتشكيل لوبي سوري في أميركا على أمل دفع الإدارة الأميركية لتخليص الشعب السوري من نظامه المجرم. وعلى أهمية تكاتف وتضافر طاقات السوريين في أميركا – وفي غيرها – لتشكيل قوة ضغط لمصلحة الشعب السوري وإنقاذ سورية ؛ إلا أن أي لوبي سوري لن يستطيع تعديل أية سياسة أمريكية حيال شعب سورية وثورته ومطالبه المحقة العادلة..

واذا ما دققنا التمحيص في قانون قيصر إياه ندرك أنه لا يهدف إلى إسقاط النظام وربما لن يؤدي حتى إلى إضعافه؛ لكنه سوف يكون وسيلة لمزيد من إنهاك الشعب السوري وتفتيته وتعميم الفقر والجوع ونشر الفساد والرذيلة والمقامرة والارتهان والابتزاز  وتوصيله إلى فقدان الأمل والثقة ثم اليأس والقبول بأي وضع ، مهما كان سيئا  ؛  تمهيدا لمصادرة كل عوامل قوته وقدرته على الوقوف مجددا والنهوض واستعادة بلاده عربية موحدة من مستلبي إرادتها المحليين والخارجيين..

ولسوف يسقط النظام المجرم يوما ما، قد يكون قريبا، لكن بعد أن تكون سورية مستقطعة للقوى الخارجية والشعب السوري منهكا مشردا يقبل بأي حل بدعوى الخلاص. يومها سوف تخرج تلك الدوائر التي تحمي النظام وتغطي جرائمه – لمزيد من البلبلة والتشويش وتزييف الوعي – لتترحم على أيام النظام الساقط وانه كان موحدا لسورية محافظا على دولتها رغم كل شيء. فهل هذا ما يريده احرار سورية الثائرون؟؟

وهل يجوز لأحد بعد تجربة عشر سنوات حافلة بالوقائع والمعطيات والأحداث؛ الاستمرار في توهم الاحتكام إلى أميركا وتوقع مساعدتها للشعب السوري؟؟

اميركا ليست ولن تكون فاعل خير لا في سورية ولا في المنطقة العربية ولا في أي مكان من العالم..

وليس ما تريده أميركا هو ما تعلنه أو تتحدث عنه. وكثير مما تريده توكله إلى مؤسسات إغاثية أو بحثية أو خيرية تستغل حاجة المشردين والمنكوبين إلى أية مساعدة نظرا للبؤس الشديد الذي يفتت أفئدتهم. فالخداع صفة ملازمة للسياسة الأميركية وللعقل الرسمي الأميركي أيضا. لذا برعوا ويبرعون في استخدام واجهات مدنية – اجتماعية تغلف مباحثهم وسعيهم للدس والفتنة والتلاعب بالعقول وبالنفوس؛ تمكينا لهم من السيطرة والتحكم بالموارد والمقدرات..

إن تاريخ أميركا الإجرامي منذ نشأتها يشكل لها تراثا بل عقيدتها الراسخة وأبرز ثوابتها التكوينية.. إن إلغاء الآخر الذي يشكل عقبة أمام مصالحها المادية وتفوقها الإستراتيجي، يعتبر عملا نافعا بل ضروريا بكل مقاييس العقل الأميركي المادي النفعي اللا منتمي إلا إلى مصلحته المادية وتكديس ثرواته المالية ولو مات جميع البشر..

ليست سورية استثناء بالنسبة إليها ولن تكون. والعكس صحيح ففيها من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن الثمينة ما يمثل لها صيدا ثمينا لا تقدر على مقاومة ذاتها حياله ولا رؤية غيرها يستفيد منه ولو كان شعب سورية صاحب الأرض وما فيها وعليها..

كان الأجدى والأنفع والأفعل تركيز كل الجهود الوطنية السورية لبلورة حركة وطنية سورية ذات رؤية موحدة وبرنامج عمل مرحلي محدد الأهداف واضح المعالم. ولقد كان هذا الهدف أكثر قابلية للتحقيق بما كان متوفرا من إمكانيات ومقدرات وما كان سائدا من شبه إجماع شعبي وطني وتفاعل إيجابي مع الانتفاضة الشعبية الصاعدة وتحويلها إلى ثورة متكاملة العناصر..

كان وسيبقى هذا الهدف هو المطلب التنظيمي الأول لأي حراك ثوري بالاعتماد على القوى الذاتية وما أكثرها. أما انتظار مساندة تأتي من أميركا أو غيرها فليس إلا سرابا خادعا ووهما بائسا.

إن كل تفكير بإمكانية تأييد أميركي لأية حركة شعبية عربية حرة مستقلة؛ إنما يدل على قصور في وعي التاريخ القريب وفي معرفة حقيقة الصراع العربي – الصهيوني؛ ومقومات وأهداف المشروع الصهيوني وعلاقته التكوينية بالنظام العالمي الرأسمالي الفاسد المجرم الذي تحكمه الولايات المتحدة الأمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى