في ٢٢ من شهر شباط/ فبراير من كل عام تجتاح نفوسنا غصة حارقة على تلك التجربة الرائدة التي كانت محط آمال جموع الشعب العربي الغفيرة.
تجربة تكالبت عليها منذ أن كانت جنينا في رحم الوجدان وحلما في ضمير الأحرار، تكالبت عليها كل قوى النفوذ العالمي وأدواته وأذرعه المحلية مدعمة بقوة الإقليمية وانظمة البغي والفجور وقوى الشعوبية الحاقدة ما كان منها دينيا وما كان يساريا وكل من كان مرتهنا لنفوذ أجنبي هنا ونظام هناك…مع كل رواسب القهر والعسف والتخلف الكامنة؛ إلى بيروقراطية كانت ذات فعل مستتر قميء.
فكانت جريمة الانفصال انطلاقة زخم متجدد للمشروع الاستعماري – الصهيوني وعدوانه على مجمل الأمة..
واقعنا العربي الراهن خير دليل على تلك المعادلة التاريخية الراسخة: الوحدة طريق التقدم والانتصار..
اما الفرقة فهي طريق أكيد للهزيمة..
بسقوط الوحدة وغياب القيادة الوحدوية التاريخية؛ وفي غياب ” العرب ” رؤية ومشروعا وتنظيما وقيادة؛ تفتحت شهية الأطماع الإقليمية والدولية وأطلق العنان للعدوان الصهيوني بلا حدود أو قيود. فراح أصحابها جميعا يتسابقون في التباهي بعدائهم لهوية أمتنا التاريخية لاستبدالها بهويات أخرى نقيضة معادية. إلى أن بلغوا مرحلة تهديد الوجود العربي ذاته..
حيث تتمثل الأخطار الوجودية راهنا على فريقين أساسيين:
– الصهيوني الأمريكي الاستعماري وعدوانه اليومي المتصاعد.
– المشروع الفارسي التقسيمي الإستقطاعي الشعوبي.
مع الاختلافات الكثيرة بينهما والتشابه والالتقاء في نقاط أخرى كثيرة..
الكيان الصهيوني من جهته يحتل الأرض العربية بدء من فلسطين معلنا انها أرضه التاريخية بين النيل والفرات..يعمل على استرجاعها إلى مملكته الإمبراطورية وإلغاء مفاعيل آلاف السنين من التفاعل بين الأرض والشعب وما نتج عنها من ثقافة وحضارة وشعب ومجتمع عربي وأمة عربية..زاعمًا أنه يطهرها من ” الاحتلال ” العربي..
ومن جهتها تعلن سلطة نظام الملالي في إيران أن بلاد المشرق العربي بدء من العراق وامتدادا إلى سورية وبلاد الشام جميعا وصولا إلى الجزيرة العربية واليمن؛ تعلن جهارا نهارا انها تريد استعادتها إلى مملكتها الإمبراطورية التاريخية.. فهذه الأرض لها وتستعيدها من ” الاحتلال ” العربي لتلغي مفاعيله التاريخية أيضا..
وأول مفاعيلها التاريخية المستهدفة: هوية المنطقة – عروبتها – وكيان أمتها العربية..
يوما ما كانت جزء من إمبراطورية فارسية قبل الإسلام.. فهل يريد نظام الملالي إلغاء الإسلام من الواقع والتاريخ ويعيد الجغرافيا إلى ما وراء التاريخ؟؟
الكيان الصهيوني يرفع راية الدين اليهودي لاغتصاب الأرض العربية وإلغاء هويتها..
نظام الملالي الإيراني يرفع راية الدين الإسلامي – المذهبي – لاغتصاب الأرض العربية وإلغاء هويتها..
أين الاختلاف؟؟
أليست السياسة الميدانية لكليهما متشابهة وإن بوسائل مختلفة:
تشريد الشعب
تدمير المدن
تغيير الديمغرافيا السكانية
نبش المقدسات والأماكن الأثرية الدينية بحثا عن أوهام أو للتشفي والانتقام!!
مصادرة الأرض والأملاك وتزوير ملكيتها
اغتيال الشباب الحر والعقول والعلماء
أليس هذا ما يحدث في فلسطين وبلاد المشرق العربي، بلاد الطوق لفلسطين؟؟
أليس ما لا يستطيعه العدو الصهيوني، يمارسه نظام إيران عبر تسلله إلى بنية المجتمع العربي ونسيجه السكاني باسم الإسلام والعصبية المذهبية لإخفاء أطماعه في المنطقة وعدائه لهويتها التاريخية ومباشرة عبث تخريبي في تلك البنية الحضارية المستقرة؟؟
أليس إلغاء الهوية التاريخية لأمتنا العربية وإلغاء حقها في الوجود والتحرر والتقدم هو ذاته جوهر المشروع الصهيوني الاستعماري؟؟
فهل هي مجرد مصادفات عشوائية تزامنت مع بعضها لإعادة احتلال المنطقة واستعمارها وطمس عروبتها وإلغاء الإسلام وآثاره المجتمعية التاريخية؟؟؟
هل هي مصادفات غريبة أم هي شيء آخر؟؟
هل يتكاملان؟؟
عدونا الصهيوني لا يخفي ما يريده ويعمل للوصول إليه..
أما إيران فتتخفى تحت ستار الإسلام.. ولأنها بلاد مسلمة تستغل مشاعر المسلمين العرب عموما بحب آل البيت؛ لإخفاء حقيقة مشروعها الإمبراطوري التقسيمي الشعوبي الحاقد…كثيرة هي التصريحات الرسمية والدينية الإيرانية التي تتحدث عن استلحاق أربع عواصم عربية بالمشروع الإيراني. وان العراق جزء أصيل من دولة فارس الإمبراطورية التي قضى عليها الإسلام.. وكذلك بلاد الشام. تصريحات لم تتوقف منذ عشر سنوات تسندها جميع الوقائع الميدانية منذ احتلال أميركا للعراق ومعاونة أيران لها؛ مرورا بما جرى في سورية ولبنان واليمن..
ولأن الإيرانيين مسلمون فهم ينسلون انسلالا إلى صلب البنية الاجتماعية العربية يخربون وحدتها وتناغمها السكاني التاريخي وهو ما لا يقدر عدو خارجي على فعله.. يتاجرون بشعارات الموت ” لإسرائيل ” لإخفاء تناغمهم معها في الجوهر الإستراتيجي حيث أفرغوا قضية فلسطين من جوهرها كصراع وجودي وأحالوها إلى تكتيك يناورونه لمزيد من التسلل إلى الوجدان العربي والعبث بثوابته الوطنية. فهل إلغاء هوية المنطقة وتشريد أهلها وتقسيم مجتمعاتها مذهبيا يخدم قضية فلسطين مثلا؟؟
وإذا تجرد سكان بلاد الشام من عروبتهم وانتمائهم لأمتهم وألحقوا ببلاد فارس فكيف يواجهون العدوان الصهيوني ولماذا وعلى أي أساس؟؟
ليس تحرير فلسطين مسؤولية إيران – ولا مسؤولية أحد آخر من غير العرب – وبالمقابل ليس مقبولا منها المتاجرة بالقضية لتمزيق العرب واقتطاع أرضهم واحتلالها تحت أية ذريعة. وإذا كان ” العرب ” يفتقدون لمشروع عربي تحرري واضح المعالم، فلا يحق لإيران تحت هذا المبرر، العبث بمجتمعاتهم وتخريبها بحجة تخلي النظام الرسمي العربي..
ليس إيران وحدها من يعبث بتجانس مجتمعاتنا واستقرارها الحضاري التاريخي. وكل ما يقال عنها ينطبق على غيرها من المشاريع التقسيمية الطامعة الحاقدة.. وإن كان المشروع الإيراني هو الأشد فتكا بالوحدة السكانية الشعبية العربية..
التخريب المجتمعي الداخلي أشد خطرا من العدوان الخارجي.. وأكثر ما يشكل خطرا على قضية فلسطين ذاتها وعلى قدرة العرب – راهنا أو لاحقا- على رد العدوان الصهيوني المتصاعد..
في حديث الوحدة؛ ينبغي أن يتنبه العرب إلى خطر الاقتطاع …اقتطاع الأرض العربية وإلحاقها بقوى غير عربية. كما إلى خطر التفتيت المذهبي أيا كان مصدره وبواعثه.. كما إلى خطر التغيير الديمغرافي والتهجير السكاني..
جريمة الانفصال كانت منطلقا لهجوم معاكس لقوى النفوذ الأجنبي جميعا نشهد نتائجه اليوم ضعفا وتفككا وهزيمة.. الانفصال فكك عرى الدولة الواحدة. أما المشاريع الأخرى فتفكك عرى المجتمع الواحد فهي أخطر وأبعد أثرا. المجتمع الموحد المتجانس يستطيع استعادة الدولة الواحدة أو إعادة بنائها يوما. أما المجتمع المفكك والشعب المبعثر المشغول بخلافات المذاهب والطوائف المنقسم على ذاته فسوف يكون عاجزا عن التحرر والتقدم ورد أي عدوان..
الوحدة الشعبية المجتمعية أساس أي انتصار في أية معركة…
لذا فالاقتطاع والتفتيت والتهجير واحتلال العقول سوف تكون نتائجه أكثر خطورة وأشد فتكا ..فهي الخطر المحدق المتربص بالوجود العربي ذاته…فهل يتنبه ” العرب ” جميعهم لهذه الأخطار القائمة ، والتي لن تستثني أحدا منهم يوم لا تنفع ندامة ولا يعين دعم خارجي أو حماية أجنبية…حتى أولئك المتواطئين على قيم الوحدة ومتطلباتها لن يسلموا من تلك الأخطار ومن تربص القوى التي تصنعها وتمارسها وتجعل منها شبحا يهدد الوجود من أساساته..
ختاما ليس للوحدة يوم فهي ليست ذكرى مضت وليست مناسبة سابقة..
الوحدة وعي أولا ورؤية استراتيجية عامة ثانيا وممارسة ميدانية حياتية يومية تلتزم كل ما يجمع ويصلح ويوحد وتحاصر كل ما يفتت ويقسم ويفتن…
إن تراكم الوعي الشعبي بأهمية الوحدة وضرورتها مقدمة لاستعادتها إلى الوجدان العربي الحي والى كل تصور عن بناء المستقبل الأفضل. كما إلى السلوك اليومي لكل المؤمنين بها أولا ثم لكل مواطن عربي حر شريف….
حينما قامت وحدة ١٩٥٨ كانت الوحدة وهجا متوقدا في الوجدان العربي. أشعلته قيادة جمال عبد الناصر لمعركة التحرر والاستقلال والبناء والتنمية. معركة العزة والكرامة..اما اليوم فلا قيادة ولا رؤية ولا مشروع فتراجعت قضية الوحدة من الوقائع ومن الوجدان الشعبي أيضا. بل استطاع أعداؤها تحجيم وهجها إذ أدخلوا في الأذهان أنها مناقضة للديمقراطية وهو قول مناقض للحقيقة تماما..
إن إعادة حيوية الوحدة إلى الوجدان الشعبي العربي مطلب أساسي لتفعيل العمل في سبيلها..
وتلك مهمات الوحدويين أولا وثانيا ثالثا. فلا وعي وحدوي بدون وحدويين فاعلين.