اقترب شهر آذار. هكذا تبدأ الأحاديث الكُردية الشعبية منها، أو الحزبية والسياسية. وتبدأ معها قصة الانقسام الكردي بالتبلور مجدداً. انقسامٌ لا يغيب عن ذاكرة الكُرد المتخمة بنكسات اللاتوافق، إلا أن هذا الشهر تحديداً، يحمل محفزات للذاكرة، فتدمر أحلامهم، وتُشعر المهتمين الجديين بهدر طاقاتهم عبثاً وهم يحلمون برأب الصدع بين الأطراف السياسية المتنازعة.
على امتداد تاريخ الكُرد في سوريا، عقب الاتفاقيات الدولية، وإلى تاريخه، تحمل الجعبة الكُردية العديد من المناسبات والحوادث والأحداث والمواجهات الناعمة أو الدموية. كما يستحضر الكُرد القوميين ذكرياتٍ لأحداث يعتبرونها محطات انعطافية بارزة في مسيرة القضية الكُردية حتى على مستوى خارج الحدود الكردية في سوريا. أو يعتبرونها رداً للجميل الذي جعل من القضية الكُردية متصدرة للاهتمامات الدولية. في كل هذه الكتلة الضخمة، لا يجد كُرد سوريا ما يجمعهم حولها. إذ دوماً ما يكون الانقسام مسيطراً على كُل فعل لأحياء جزء من الذاكرة الكُردية. هذا الشطط هو نتاجٌ طبيعي للخلاف السياسي والحزبي الكُردي في سوريا، وعليه فإن القواعد الاجتماعية والمجتمع المحلي الكُردي لن يكون بعيداً عن هذا الانقسام، بل سيكون في صلبه، وجزءاً مهماً منه، كانعكاس طبيعي لمدى الأثر السلبي للخلافات الحزبية ودورها على الوسط المجتمعي.
ثمة أحداث ومنعطفات ووقائع كُردية مشتركة، بل محطات ضخمة يُمكن للكُرد من خلالها فكفكة شيء من العزلات السياسية اجتماعياً عن بعضهم البعض
والغريب في الأمر، أن حالة التململ والتذمر الشعبي من الراهنية الحزبية وصلت إلى أعلى مداها، لكن الخلافات تؤثر مباشرة على الشعب أيضاً، وبذلك لن تكون هناك ذاكرة متفق عليها، إلا قسراً وإجباراً من قبل الأطراف السياسية التي تمتلك سطوة العقوبة أو المحاسبة ضد الكتلة البشرية المرتبطة بها، ما لم تنصاع للأوامر الصادرة. وبما أن الأحزاب الكُردية نفسها، لم تنجح في ترتيب العلاقات الاجتماعية بالشكل الذي تجعل منها صمام أمانٍ ضد أي مواجهات مباشرة بين أنصار الأطراف الحزبية الكُردية، أو بينهم وبين غيرهم، فإن هذا القسر لن يكون إلا مرفوضاً من جانب كل من يستطيع الرفض. فعلى سبيل المثال، فإن الإدارة الذاتية تمتلك قوة التلويح بالعقوبات المادية على الموظفين الملتزمين بمؤسساتها، لكنها تواجه الرفض من الأطراف الأخرى. كما أن ضعف أداء المجلس الكردي ميدانياً، حتى بعد فكفكة سطوة الأجهزة الأمنية التي كانت تلوح بشرط الترخيص أولاً، فإن ذاك الضعف، والذي توضح خلال شهر آذار الماضي، قبل فرض جائحة كورونا حظر الأنشطة، هو نفسه يدفع أنصاره للابتعاد عنه.
ثمة أحداث ومنعطفات ووقائع كُردية مشتركة، بل محطات ضخمة يُمكن للكُرد من خلالها فكفكة شيء من العزلات السياسية اجتماعياً عن بعضهم البعض. فشهر آذار يحتوي على ذكرى رحيل الجنرال مصطفى البارزاني في1/3/1979 والذي يعتبره الكُرد الأب الروحي للأمة الكُردية، لما قام به من ثورات ونضالات ضمن حركة التحرر الكُردستانية. هذه الذكرى التي كانت بعض الأحزاب الكُردية قبل 2011 تحييها سراً، وبشكل منفصل عن بعضهم البعض. تحول التأبين علنياً، سواء عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني-سوريا، أو بدعوة من المجلس الوطني الكردي. الغريب في الأمر أن أحزاباً كردية كانت جزءاً من المجلس الكردي حتى الأمس القريب، وتصارع تارةً لتصدر مشهد التأبين، أو لإحياء الذكرى منفصلة عن دعوة المجلس الكردي، هم أنفسهم قاموا بطي الذكرى وتنازلوا عنها بعد التحاقهم بأحزاب الوحدة الوطنية الكردية (أحزاب الإدارة الذاتية).
كما تشهد مقبرة حي الهُلالية الكُردي في قامشلو زيارة حشودٍ منفصلة للأحزاب الكُردية والمنظمات والشخصيات الثقافية، لإحياء ذكر رحيل القامة الفنية الكُردية محمد شيخو الذي وافته المنية في 9/3/1989. والفنان الراحل بما يشكله من إطار جامع للغناء والتراث والفلكلور الكردي القومي، بما قدمه من أغانٍ ثورية وقومية وعاطفية، شكل مظلة جمعية لمختلف الشرائح الكردية السياسية والاجتماعية وحتى الدينية منها، وهو ما شكل سبباً كافياً لإحياء هذه المناسبة بشكل جمعي، لكن دون نتيجة. والغريب أن الراحل عاش كل حياته فقيراً وملاحقاً من معظم الفروع الأمنية، دون أن يتلقى أيَّ اهتمام به.
كما يحتفل الكُرد في سوريا، كباقي الكُرد في كل مكان، في 10/3 من كل عام بيوم الزي الكردي. وهي المناسبة التي تشهد عدة احتفالات في أكثر من مكتب وفي نفس المدينة، بارتداء الزي الكردي رجالاً ونساءً، وتشابه مضمون الاحتفال وطقوسه، دون جمعه في مكانٍ واحد.
أما الحدث الأبرز في تاريخ الشعب الكردي في سوريا، فيتجلى سنوياً في إحياء ذكرى انتفاضة 12 آذار، التي بدأت من القامشلي وانتقلت إلى شتى دول الوجود الكُردي في العالم. دأبت بعض الأحزاب سنويا على إحياء شهداء الانتفاضية الكُردية، وبعد الـ2011 تحول التأبين إلى قرار جماعي من الأحزاب الكردية، إلى أن حصل تفجير إرهابي في 11/3/2014 أمام فندق هدايا إحدى المراكز الإدارية التابعة للإدارة الذاتية. فأصبح التأبين بعدة أشكال، أحزاب المجلس تعتصم في مقابر الشهداء، والإدارة الذاتية تُحيي ذكر ى تفجير هدايا، وأحزاب كردية أخرى تكتفي بإصدار بيان، وبعضها تتناسى ذلك اليوم من أساسه، أو من يزورون مقابر الشهداء بمفردهم.
أجمعت أحزاب المجلس الكردي على إنشاء مسارح فلكلورية مشتركة، إلا أن الإدارة الذاتية تبقى تحتفل بمفردها، كحال الأحزاب غير المنخرطة في كِلا الطرفين
منذ عقود يُحيي الكُرد سنوياً ذكرى مجزرة حلبجة التي قصفها النظام العراقي السابق في 16/3/1988، ودوماً كان الطلبة الكرد في الجامعات السورية، يعتصمون بغض النظر لخلفيات الطلبة الحزبيين أو المستقلين، كحال عموم الكُرد في سوريا، ويبدأ الاعتصام في تمام الساعة الـــ/10,55/ صباحاً في 16 من آذار، قبل أن تخرج بعض الأحزاب الكردية ببدعة تقديم أو تأخير الموعد، لبضع دقائق.
ومهما بلغت الخلافات، أو تنوعت أساليب أحياء المناسبات والتأبين، إلا أن عشية وصبيحة يوم النوروز المصادف 21/3 من كل عام، تبقى الغصة الأكبر، إذ يحتفل كل حزبٍ بإشعال شعلة النوروز أمام مكتبه، دون تخصيص ساحة عامة متفق عليها للجميع، وإن أجمعت أحزاب المجلس الكردي على إنشاء مسارح فلكلورية مشتركة، إلا أن الإدارة الذاتية تبقى تحتفل بمفردها، كحال الأحزاب غير المنخرطة في كِلا الطرفين.
إضافة إلى تعدد وتنوع الوقفات وأحياء ذكرى فاجعة تفجير شارع عامودا في قامشلي صبيحة 27/7/2016، والتي اعتبرت أسوأ كارثة بشرية وأكثرها تأثيراً في وجدان الشعب الكردي لما تسببت به من شهداء وجرحى ونسف أبنية كاملة، عدا عن غياب الحقيقة إلى اليوم. مع ذلك فإن أكثر من جهة تتجه إلى مكان الحدث في تواقيت متقاربة أو متطابقة، دون أي فعل مشترك في التأبين.
كما أن ذكرى تأسيس أول حزب كردي في سوريا والمصادف للعام 1957، لا تزال المناكفات الحزبية حول أحقية أيَّ حزب في حمل رايتها التاريخية مستمرة، عدا عن الصراع الحزبي حول ما إذا كان نور الدين زازا من المؤسسين للحزب أم لا.
عجز الكُرد في سوريا على توحيد ذاكرتهم الجمعية عبر توحيد شكل وآليات وخطاب الفعل القائم بتلك المناسبة، يحيل الأجيال الكُردية القادمة إلى حالة فقدانهم للذاكرة الجمعية، وهو ما يتطلب من العقلاء التفكير بها جيداً فمن دون ذاكرة مشتركة، يصعب الحديث عن انتماءٍ صافٍ موحد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا