خليل معتوق في السنوات البيض

فايز سارة

في مقالته ضمن ملف الاعتقال والمعتقلون يسرد الكاتب والصحافي فايز سارة قصة نضال صديقه المحامي خليل معتوق ونشاطاته ابتداءً من بيان الـ99 الذي هزّ سوريا بعد سنوات صمتها وصولًا إلى اعتقال معتوق على يد الأجهزة الأمنيّة مرورًا بصولات وجولات خليل معتوق في المحاكم المختلفة دفاعًا عن المعتقلين السياسيين وحقوق الإنسان في سوريا.

سمحت لنفسي، أن انحت تعبير السنوات البيض، صفة لسنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين استنادًا إلى وقائع ما عاشته سوريا من أحداث وتطورات. ففي أواخر عام 2000، صحت سوريا ذات يوم في أواخر أيلول على حدث نوعي، كسر السياق السائد في حياتها، والمستمر لعشرات من سنين متتالية.

كان حدث كسر السائد في الحياة السورية في شهر أيلول من العام 2000، صدور بيان الـ99 الذي صاغه مبادرون، ووقعه مثقفون وفعاليات مدنيّة واجتماعيّة، طالبوا فيه بوضع حدّ لما لحق بحياة السوريين من ترديّات، وركزوا على ثلاثة مطالب: أولها إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة المطبقة في البلاد منذ العام 1963، وثانيها إصدار عفو عام عن جميـع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسيّة، والسماح بعودة المشردين والمنفيين السياسيين جميعًا، وثالثها إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعدديّة السياسيّة والفكريّة، وحريّة الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود، وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين بالتعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق اجتماعي، وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي، يتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد وازدهارها.

ورغم أنّ البيان بمحتواه، لم يكن منفصلًا عن تحركات محدودة سبقته، فإنّه كان نقطة تحول، فتحت عقدًا من سنوات، سعى سوريون فيها إلى إحداث تبدلات إصلاحيّة عميقة في حياتهم وبلدهم، وعندما فشلوا في تحقيق هدفهم نتيجة معاندة النظام، وإصراره على المضي في مساره القديم، فجروا ثورة على النظام في آذار 2011  مطالبين بالتغيير الشامل هذه المرة بشعار استعاروه من ثورات الربيع العربي التي سبقتهم، قال: الشعب يريد إسقاط النظام، فجعلوه متضمنًا تغيير نظام الدكتاتوريّة والاستبداد والفساد، وإحلال نظام بديل، يوفر الحريّة والعدالة والمساواة لكلّ السوريين، وهي المعاني التي تضمنتها هتافات المتظاهرين السوريين الأولى.

وسط أسماء السوريين البارزين في عقد السنوات البيض، كان اسم المحامي خليل معتوق، وقد تعرفت عليه وعرفته عن قرب في بدايتها، وشاركت معه كثير من تجارب ومواقف، كما تشاركنا معًا في نشاطات، امتدت سنوات، ثم توجنا ما سبق بصداقة لا تنقطع مودتها.

عرفت لأول مرة اسم خليل معتوق بين الأسماء التي وقعت على بيان الـ99، وكنت بينهم، ثم أخذ اسمه يتكرر في الفعاليات المختلفة، التي توالت في ربيع دمشق. فكان اسمه حاضرًا في البيانات، التي يُصدرها الناشطون حول الأوضاع والتطورات العامة في سوريا، وفي طلبات ومناصرة تشكيل المنظمات الحقوقيّة، والتي كان أبرزها الجمعية السوريّة لحقوق الإنسان التي تشكلت في العام 2001، كما ظهر اسمه في الناهضين السوريين نحو تشكيل منتديات ربيع دمشق، حيث أطلق أواخر العام 2000 المنتدى الثقافي لحقوق الإنسان، وجعل من بيته في مدينة صحنايا، بالقرب من دمشق، مقرًا له، فكان واحدًا من السوريين الذين عملوا على تعميم ظاهرة المنتديات، وجعلها متنوعة في اختصاصاتها واهتماماتها، لتغطي الجوانب الأهم في احتياجات الحياة السوريّة نحو الانفتاح والعصرنة.

طور خليل معتوق نشاطه في ميدان حقوق الإنسان متوليًا مسؤوليّة عامة في موقعين، الأول رئاسة المركز السوري للدفاع عن حريّة الرأي، والثاني إدارة المركز السوري للدراسات والبحوث القانونيّة، وكلاهما بين الانشطة الجديدة، التي حملتها السنوات البيض للسوريين من أجل تحسين حياتهم في الميدان الحقوقي والقانوني.

لم تكن سيرة خليل معتوق واهتماماته طارئة ومرهونة بصدور بيان الـ99 الذي هزّ سوريا بعنف في خريف سنة 2000، بل هي في الجانب الأهم، استمرار لخيارات تأسست قبل ذلك بسنوات طويلة، كانت بدايتها في التوجه نحو دراسة الحقوق، والتخرّج من كليّة الحقوق في جامعة دمشق، واختياره العمل في المحاماة، ومنذ بدايته متدربًا، ركّز اهتمامه في الدفاع عن الموقوفين والمعتقلين وأصحاب الرأي، وهو ميدان محفوف بالمخاطر في بلد محكوم بحالة الطوارئ منذ العام 1963، والكلمة فيه للأجهزة الأمنيّة، التي تتلاعب بالقضاء، وتنتهك القانون الذي تزعم أنّها تحميه.

منذ بداية التسعينات، أخذ يصعد نجم خليل معتوق بين أسماء المحامين اللامعين في الدفاع عن المعتقلين السياسيين والناشطين في ميدان حقوق الإنسان وبينهم سامي ضاحي وجوزيف لحام ومنير العبد الله، بل إنّ معتوق بدأ يتميز في عداد هؤلاء لحماسته وطاقته الشابة من جهة، وكثرة وحساسيّة، وتنوّع القضايا التي يتولاها، متنقلًا بين المحاكم المدنيّة والعسكريّة وصولًا إلى محكمة أمن الدولة، مدافعًا عن معتقلين من مختلف الانتماءات بينهم إسلاميون وقوميون من بعث العراق، وشيوعيون من كلّ الاتجاهات شاملًا معتقلي حزب العمل الشيوعي، والأكراد وأحزابهم بمن فيهم معتقلي حزب العمال الكردستاني، كما دافع عن معتقلين من فلسطينيين ولبنانيين وأردنيين وعراقيين، ساقتهم أقدارهم ليكونوا ضحايا اجهزة نظام الأسد، وأضاف إلى القائمة دفاعه عن معتقلي لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في العام 1992 الذين كانوا يُحاكمون أمام محكمة امن الدولة.

كانت روح خليل معتوق في تعامله مع مواطنيه باتجاهاتهم المختلفة وموكليه، أكثر اتساعًا من خياراته السياسيّة، إذ كان عضوًا في احد انشقاقات الحزب الشيوعي السوري، ولأنّه لمس تلك الحساسيّة في الاختلاف، فقد قرر مغادرة تنظيمه الحزبي، فأصدر في العام 2000 بيانًا أعلن فيه اعتزاله العمل السياسي لقناعته، كما يقول صديقنا المحامي ميشيل شماس، إنّ من يدافع عن حقوق الإنسان ينبغي، أن يكون متفرغًا تمامًا لهذه المهمة، ولا يجب أن ينشغل بامور حزبيّة أو سياسيّة، تأخذه نحو الأبعد. وللحق فإنّ اعتزال معتوق العمل السياسي، لم يكن يعني القطيعة مع السياسة، ولا مع أحزاب وجماعات المعارضة السوريّة، بل كان بوابة لعلاقات أفضل مع كلّ الجماعات، وأتذكر كم كان قريبًا من جماعات المعارضة في التجمع الوطني الديمقراطي ولجان إحياء المجتمع المدني والأحزاب الكرديّة، عندما كانت حواراتنا تتواصل حول تشكيل تحالف المعارضة السورية، والتي أنتجت صيغة إعلان دمشق عام 2005، وأتذكر أنّه في العام 2004 استضاف في مكتبه المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، وهو المؤتمر الذي بدّل فيه الحزب اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي، وانتقل من العمل السري إلى العمل العلني.

لقد حملت السنوات البيض في نشاطات معتوق تحولات عميقة، ليس فقط في الأشياء المستجدة، والتي تشير إلى بعضها فيما تقدم، بل في تعميق المهمات، التي اختارها، وبدأ معتوق فيها حياته دفاعًا عن حقوق مواطنيه، وانتقل في هذه المرحلة، إلى التعامل مع قضايا أكثر عموميّة، تقع في صلب اهتمام أوساط متعددة في سوريا وخارجها. فمع الاعتقالات الأولى لربيع دمشق، والتي بدأت في آب- أيلول 2001 وشملت عشرة من الناشطين بينهم مأمون الحمصي ورياض سيف عضوي مجلس الشعب، وأستاذ الاقتصاد عارف دليلة ورياض الترك وحبيب عيسى ووليد  البني، ظهر معتوق في مقدمة أبرز المدافعين عنهم، ثم تكرر دوره مشاركًا الدفاع في قضية الـ14 ناشطًا من منتدى الكواكبي في حلب، والتي كانت بجد معركة المحامين السوريين مع نظام الأسد، إذ انضم العشرات من المحاميين من معظم المحافظات السوريّة للدفاع عنهم أمام المحكمة العسكريّة في حلب، وانضم معتوق الى المدافعين عن معتقلي إعلان بيروت-دمشق في حزيران 2006، والتي اعتقل فيها عشرة من الناشطين أبرزهم المفكر السوري ميشيل كيلو عضو لجان إحياء المجتمع المدني والمحامي أنور البني المدافع عن حقوق الإنسان والناشط السياسي محمود عيسى، وكان معتوق في مقدمة عشرات المحامين الذين تقدموا للدفاع عن الـ12 قائد من قيادات تحالف إعلان للمعارضة، وكان من بينهم فداء الحوراني ورياض سيف وعلي العبد الله ووليد البني وأحمد طعمة وأكرم البني وفايز سارة، وأحب أن أشير إلى أنّه كان المحامي الرئيسي الذي تابع قضيتي خلال اعتقالي في بداية الثورة في العام 2011، وقد قام بدفع الكفالة الماليّة لإطلاق سراحي، وهو سلوك كثيرًا ما قام به من أجل إطلاق سراح سجين أو معتقل، كان موكلًا للدفاع عنه أمام محكمة ما.

أجزم وأنا اعرف الكثير عن حياة ونشاطات المحامي والصديق خليل معتوق، أنّه من الصعب الإحاطة بما كان الرجل، ومن الصعب الإحاطة بما فعله بعد قيام الثورة في أواسط آذار من العام 2011 في سياق نشاطات السنوات البيض، التي أطلقت تطلعات وطموحات تغيير حياة السوريين ومستقبل أجيالهم وبلدهم نحو الأفضل، وكان خليل حاضرًا في مفاصلها الرئيسيّة وفي كثير من تفاصيلها، مما كرسه انسانًا مشاركًا ومدافعًا عن الفاعلين في أذهان الأغلبيّة السوريّة، وجعله هدفًا عند أجهزة نظام الأسد، ودفع إلى تكريمه من جانب جهات تعمل على تكريم المدافعين عن حقوق الإنسان.

كلّ ذلك أدىّ إلى قيام مخابرات الأسد باعتقال معتوق وصديقه محمد ظاظا في تشرين الأول في العام 2012 بعد سلسلة طويلة من المتابعات والاستدعاءات، أدركت الأجهزة الأمنيّة من خلالها أنّ الرجل لا يحيد عن مساره، وأوضح إصرار السوريين، رغم كلّ ما أصابهم، على تذكر خليل معتوق والمطالبة بالكشف عن مصيره، رغم مرور تسع سنوات على اعتقاله، ولأنّ الوضع على ما هو عليه في الحالتين، فقد منحته منظمة “محامون من أجل المحامين” الهولنديّة في العام 2015 جائزة المدافعين عن حقوق الإنسان بناءً على ترشيح الشبكة الأورومتوسطيّة لحقوق الإنسان.

مع اعتقال خليل ورفيقه ظاظا، كان عقد السنوات البيض في سوريا قد وضع رحاله، وبدأت سنوات المعاناة من نظام صعّدَ في مسلسل القتل والتدمير والتهجير، قبل أن يستعين بحلفاء روس وإيرانيين، يشاركون جرائمه مع مليشياتهم وعصاباتهم المسلحة، وسط سعي، منهم جميعًاً، لتعزيز فرص ظهور وانتشار جماعات التطرف والتشدد الإسلامي، وخاصة داعش والنصرة، ووسط هذه التحولات، كان لابدّ وأن يُغيّب النظام خليل معتوق الذي، من الواضح أنّه، لن يُكشف مصيره إلّا مع نهاية نظام الأسد.

المصدر: موقع حكاية ما انحكت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى