شهدت العلاقة بين مسلحي ما يسمى بـ “الإدارة الذاتية” وعصابات الأسد خلال الأسابيع الماضية تصعيداً كبيراً، ما أوحى بصدام عسكري في محافظة الحسكة، على خلفية اعتقالات متبادلة من قبل الأجهزة الأمنية لعصابات الأسد وما يسمى بقوات “الأشايس”، التي تعد بمثابة شرطة محلية تابعة لـ”الإدارة الذاتية”. وتدخّل الجانب الروسي لنزع فتيل التوتر بين الطرفين. ويعتبر ما حدث من تداعيات ما يجري في بلدة عين عيسى، إذ تطالب عصابات الأسد بتسليم بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، هذه البلدة التي تعتبر حالياً مركزاً إدارياً مهماً لــ”الإدارة الذاتية”، إذ إنها تحوّلت إلى عقدة طرق تربط بين مدن وبلدات المنطقة بعد أن أنتزعتها “قسد” من تنظيم “داعش” عام 2016، وحوّلتها إلى نقطة تمركز عسكرية لها، إضافة إلى مقر لمكاتب “الإدارة الذاتية”. ويعتبر خسارة عين عيسى بمثابة خسارة أهم الطرق الحيوية في شمال وشرق سورية، إضافة لكونها تتوسط مناطق سيطرة قسد من ريف حلب الشمالي وصولاً للحدود العراقية.
وإن كانت عصابات الأسد هي صاحبة الفضل بتشكيل الوحدات الكردية في العام 2012 والتابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي”، من أجل محاصرة الحراك الثوري في مناطق شمال شرقي سورية. وكان هناك تنسيق عسكري وأمني كامل بين الطرفين حتى أواخر العام 2015 حين شكل التحالف الدولي قوات “قسد” من اتحاد فصائل عدة، منها الوحدات الكردية والتي وُضعت في قلب هذه القوات. ومنذ ذلك الحين، بدأت العلاقة بين قسد وعصابات الأسد تفتر، خصوصاً أن الأخير رفض تقديم تنازلات لهم في جولات حوار عدة، عقدت برعاية روسية. لذلك فإن كانت عصابات الأسد ومن خلفها روسيا، تتطلع لاستثمار الضغط الذي تعاني منه قسد حالياً إلى أقصى حدٍ ممكن، إلا أن قسد تتطلع بذات الوقت إلى تدخل أميركي قد يجنبها خيارات سيئة في شمال الرقة.
وبصورة عامة لايعتبر ثوار شمال سورية قوات قسد من ضمن الثورة، بل تُتهم حتى من قبل أحزاب كردية بقمع الشباب الثائر منذ بدايات الثورة. وإن كان من المهم استحضار البدايات، إلا أنه في ذات الوقت، فإن أي كلام في السياسة لا بد أن يلحظ المتغيرات التي جرت خلال السنوات الماضية، ومن هذه المتغيرات التي لا يجوز التغاضي عنها ابتعادُ قسد عن عصابات الأسد بقدر ما تستفيد من المظلة الأميركية، وبقدر ما تمنحها الأخيرة من ضمانات بعدم التخلي عنها، خلال محاولتها تحقيق مشروعها الخاص. ويعتقد بأن هناك حالياً في قسد تياران واحد منهما مخلص لقيادات حزب العمال الكردستاني، ما هو موجود منها في سورية وما هو موجود في جبال قنديل، والثاني يميل إلى فصل المسألة الكردية السورية عن نظيرتها التركية، للتخلص من الضغط الخارجي على أكراد سورية.
وتكمن المشكلة الأساسية مع حزب العمال الكردستاني “PKK” منذ تشكيله عام 1978 إلى اليوم، أنه قد اعتمد منذ البداية أربع قواعد أساسية، لم يتخل عنها حتى اليوم، وتتمثل بإعتباره أن الساحة الكردستانية بأسرها ساحته، وحرصه على إقامة العلاقات مع الأجهزة الأمنية لمختلف الدول، وعدم الاعتراف بالشركاء أو الأنداد في إطار أي تحالفات أو اتفاقيات، واعتماد التقية وديماغوجية الشعارات. لذلك تمكن في سورية من تثبيت مواقعه، وتوسيع دائرة نفوذه، وذلك بفعل الدعم الكبير الذي حصل عليه من جانب نظام حافظ الأسد الذي سمح له بحرية الحركة على الساحتين السورية واللبنانية، ليستخدم الأسد بدوره ورقة الحزب ضمن سياسته في ذلك الحين التي كانت تقوم على أساس التحكم بالأوراق الإقليمية الأساسية.
من هنا يمكن فهم نزاع السيطرة الذي تعيشه (قسد) متمثلة بقائدها، مظلوم عبدي، مع الــ(PKK)، من خلال ما تتعرض له مكاتب أحزاب الــ”المجلس الوطني الكردي” إلى اعتداءات متكررة في مناطق مختلفة من ريف الحسكة، والذي لا يمكن فصله عن الهجوم الذي استهدف البيشمركة في محيط بلدة سحيلا بالقرب من جبل شنكال في العراق حيث شهدت المنطقة اشتباكات في المعبر الذي يستخدمه عناصر الــ(PKK) للمرور بين سورية والعراق، إذ تُعتبر منطقة شنكال استراتيجية بالنسبة للحزب الذي يستفيد منها كقاعدة موازية لجبال قنديل إضافة لكونها تعتبر النقطة الرئيسية للعبور بين مناطق سيطرته في سورية، و جبال قنديل.
وفقاً لذلك يمكن فهم المحاولات التي بدأتها الــ”الإدارة الذاتية” بتحضير عناصر سورية في مناطق سيطرتها ليتولوا مواقع ومسؤوليات “كوادر” الــ (PKK) من الجنسيات غير السورية. وعادة يطلق اسم “كادر” على المسؤولين العسكريين والمدنيين في مناطق الــ “الإدارة الذاتية” من أعضاء الــ (PKK) ومقاتليه أو من تلقى تدريبات عسكرية وفكرية وسياسية خاصة بهم. ويعتبر “الكوادر” القادة الفعليين في المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لــــ”الإدارة الذاتية” وغالباً ما ينشطون في الخلفية وبعيداً عن الإعلام.
استناداً لذلك يفهم اتهام الــ (PKK) بالمسؤولية عن حوادث العنف التي تزايدت منذ دخول المفاوضات بين المجلس الوطني الكردي و “الإدارة الذاتية” في مرحلتها الثانية من الحوار الذي كان قد انطلق في نيسان/أبريل 2020، حيث يمكن لحظ انقسام بين الــ (PKK) وفرعه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي) المهيمن على “الإدارة الذاتية” حول المضي قدماً في هذا الحوار، بدليل استهداف مقرات أحزاب المجلس ومحاولات تهديد استقرار اقليم كردستان العراق، الطرف الراعي لهذا الحوار.
وفي النهاية فإن التركيبة الحقيقية لـــ”الإدارة الذاتية” لا تختلف عن الجهة الملهمة والمنشأة لصاحب إبداعها المتمثل الــ (PKK) وفرعه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي)، حيث تتشكل الإدارة من شبكة متنفذين ذوي خلفية عسكرية، تسيطر على غالبية مفاصلها والمؤسسات التابعة لها، لتصبح سلطة الأعضاء في تلك المؤسسات مبنية ليس على المواقع الإدارية والهيكلية المعلنة لها، بل على مدى قرب هؤلاء الأشخاص من مراكز القوّة الفعلية، معيدين إنتاج طريقة الحكم ذاتها التي أنشأتها عصابات الأسد في سورية، لذلك ليس مستغرباً النتيجة التي بينتها السنوات الأخيرة، حيث تعيش الــ”الإدارة الذاتية” في برجها العاجي ويقبع الشعب في أسفل القاع الاجتماعي وتحت خط الفقر والبؤس والحرمان.
المصدر: اشراق