بعد أربعة أسابيع على تسلمه منصبه رئيسا للولايات المتحدة، ما زال جو بايدن يتجنّب الإشارة، ولو عرضا، إلى سورية، في تصريحاته العامة، علما أن الرجل يتحمّل من الناحيتين، السياسية والأخلاقية، مسؤولية كبيرة عما آل إليه الوضع فيها، بحكم أنه كان نائبا للرئيس في إدارة باراك أوباما، التي ظلت ست سنوات من عمرها (2011 – 2017) تتفرّج على المأساة السورية تتوالى فصولا، واستخدمتها خلال ذلك عربون ثقة لجرّ إيران إلى اتفاق 2015 النووي.
يزعم بايدن أن أولويته في منطقة الشرق الأوسط الآن هي إنهاء الحرب في اليمن، نظرا إلى الوضع الإنساني الكارثي في هذا البلد. جهود وقف الحرب في اليمن مهمة، ويجب أن تكون محلّ ترحيب، لأن الشعب اليمني دفع ثمنا باهظا لصراع داخلي على السلطة، تطوّر إلى حرب إقليمية مدمرة. لكن خطوات بايدن في اليمن تُبرز تناقضا كبيرا في سياساته، ولا تدلّ في الحقيقة على أن دوافعها إنسانية، كما يزعم، ففي المقابل هناك كارثة إنسانية لا تقل سوءا في سورية، يتجنّب بايدن حتى ذكرها، مستمرّة منذ عشر سنوات، سقط فيها ضعف ما سقط في اليمن من قتلى، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، الى جانب مليون مصاب، كما تسببت الحرب في تشريد نصف السكان (5.6 ملايين لاجئ، و6.4 ملايين نازح داخلي) إضافة إلى 6.5 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و11.7 مليونا بحاجة إلى مساعدة إنسانية.
ليس الحال أن بايدن يتجاهل الكارثة الإنسانية في سورية، بل إنه يسهم في إطالة عمرها من خلال توجهه إلى تشديد العقوبات الاقتصادية عليها. منذ عام 2011، تستخدم الولايات المتحدة سلاح العقوبات أداة ضغط على النظام السوري، لدفعه باتجاه حل سياسي. وبعد عشر سنوات، لا يبدو النظام أقرب إلى الاقتناع بجدوى أي حل سياسي، لا بل غدا مصمّما أكثر على أن ما لم ينتزعه منه خصومه بالقوة لن يعطيه بالمفاوضات، يؤيده في ذلك حلفاؤه.
ذكرنا مرارا أنه لا توجد في التاريخ المعاصر واقعة واحدة تدلّ على أن العقوبات الاقتصادية تسببت في إسقاط نظام متشبث بالسلطة بالأظافر والأسنان. استمرّ نظام كاسترو ستة عقود في حكم كوبا تحت الحصار (1959 – 2016)، وصمد نظام كوريا الشمالية 70 عاما وما زال، ونظام الملالي في طهران باق ويتمدّد بعد نيفٍ وأربعين عاما من العزلة والعقوبات. لا أدري لماذا ينبغي لنا بناء عليه توقع نتيجة مغايرة في سورية. الواقع أن العقوبات المفروضة من الخارج لا تفشل فقط في إضعاف نظام يمدّه حلفاؤه بما يكفي لإبقائه قائما، بل تسهم في تعزيز سطوته على مجتمعه، فالإنسان الجائع لا يملك رفاهية التفكير بحقوق مدنية أو ديمقراطية أو حرّيات. وليس لديه متسع ليلعن الاستبداد، دع جانبا مسألة أن يستجمع قواه الخائرة للثورة عليه. في المقابل، تؤدي العقوبات الى فتح أبواب ارتزاق جديدة أمام بطانة النظام وحاشيته، فكل شيء يغدو لديهم مباحا من أجل البقاء.
الواقع أن العقوبات ليست استراتيجية لتقريب الحل في سورية، أو إجبار النظام عليه، بل هي سياسة ممنهجة لتدمير ما تبقى من المجتمع السوري، وإماتته بصمت. ولا أحسب أن بايدن، الذي ساهم في صوغ العقوبات على العراق بين 1991- 2003، عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ، مقتنع بأن العقوبات على سورية ستؤدّي إلى نتائج مختلفة عنها في العراق. أميل، فوق ذلك، إلى الاعتقاد بأن الوضع الإنساني في اليمن لا يعني بايدن، كما لا يعنيه في سورية. أولويته الوحيدة هنا إيران، وهو يستخدم اليمن، كما سورية، لإقناعها بالعودة إلى طاولة المفاوضات، يخفّف الضغط هنا ويزيده هناك، أملا في الوصول معها إلى تسويةٍ تعفيه من التورّط في أزمة جديدة في المنطقة. طبعا هناك من سيسأل ولماذا تلوم بايدن، إذا كان جزء مهم من المعارضة السورية يؤيد العقوبات الأميركية، لا بل ساهم في صياغتها؟ سؤال وجيه يحتاج إلى تفصيل، لكني أميل إلى تقديم حسن النية في إجابة مختصرة عليه، وأقول: سوء التقدير، إذ تغلبت لدى بعض المعارضة، على الأرجح، أولوية إسقاط النظام على ما عداها، حتى لو كان الثمن فناء السوريين جميعا، في حين أن المطلوب هو إبقاؤهم أحياء، حتى يتمكّنوا من إسقاط النظام.
المصدر: العربي الجديد