لا سلطة رابعة للإعلام في سورية. كان الاعتقال والموت من مصير الإعلاميين المعارضين بعد 2011، والآن انضم إلى المصير ذاته إعلاميو السلطة. حديث اعتقالات بعض إعلاميي السلطة صار شائعاً في سورية. هي ليست المرة الأولى، ولكنها تأتي، هذه المرة، متوافقة مع بداية الحملة الأمنية للانتخابات الرئاسة؛ إذاً فلتجف الأقلام عن النقد، ولتتجه بأكملها نحو المعركة المصيرية: الانتخابات. رسالة لقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، أخيرا، مع إعلاميي السلطة في هذا الاتجاه؛ فمن فهم القصد أهلا به، ومن لم يفهم فله السجن؛ الخيارات واضحة إذاً.
تأتي حالة إخراس الإعلام بعد حديثٍ ما زال يتناقله ويعيشه السوريون، إنه حديث الأمل الكاذب بتغيير الأوضاع بعد القضاء على الإرهابيين والمؤامرة، فإذا بالبلد أصبح محتلاً من الروس والإيرانيين والأتراك والأميركان، وإسرائيل تصول وتجول في سمائه. تُكذّب أحاديث السلطة طوابير الخبز والوقود وانقطاع الكهرباء، وهذه الحاجات الضرورية ما أن تجد السلطة لها حلاً حتى تطلّ كسيفٍ مسلطٍ عليها من جديد. الأنكى أن الناس صاروا على وعيٍّ بَيّنٍ بأنها لن تنتهي في وقت قريب؛ انتقادات الإعلاميين تأتي من جرّاء عجز النظام عن تلبية تلك الاحتياجات، وعن فقرٍ أصبحوا يعيشون في رحابه الواسعة، ومن دون أيِّ أفقٍ بتغييرٍ قريب لأوضاعهم.
الإعلاميون أكثر السوريين معرفة بعلاقة النظام بإيران وروسيا، وبمصالحهما في سورية، وبواقع اللحظة الراهنة لتلك العلاقة. لأنهم كذلك، فهم يعرفون أن هاتين الدولتين أوقفتا جلَّ المساعدات، وهما غارقتان في أزماتٍ، لا يُعرف أوّلها من آخرها، وليس في جعبة الرئيس الأميركي، بايدن، الاتفاق النووي القديم، والذي، وكما يبدو، صار مشروطاً باتفاقيات تتعلق بالوجود الإقليمي لإيران وبالصواريخ البالستية، وشطب كل التطورات التي راكمتها إيران في الصناعة النووية منذ انسحب الرئيس السابق، ترامب، من الاتفاق، وفي هذا يتفق الأوروبيون مع بايدن كذلك. وبالتالي، لا يَلحظ الإعلاميون العارفون بمقتضى الأحوال تغيّراً، لطالما عمّمته أجهزة الأمن، وأن بايدن سيقلب ظهر المجن لترامب، وسيتم إيقاف قانون قيصر، وستعود المياه إلى مجاريها كما قبل 2011. سردية النظام هذه مَلّها موالوه، وفوق ذلك أُفقروا أشدَّ الإفقار، وبالتالي صار النقد يتفجر تلقائياً. ولإيقافه يأتي الاعتقال والملاحقة والمتابعة الأمنية، وهذا يطاول ليس الإعلاميين فقط، وربما أكثرية الموالين، حيث أصبحوا هم الخطر حالياً.
انتهج النظام تكميم الأفواه والقمع والقتل، وبشكلٍ ممنهج، منذ 2011، وهذا خياره الوحيد حالياً، سيما أنه يريد تمرير مسألة الانتخابات ومن دون أي “منغّصات” ذات معنى. التهاون مع النقد سيؤدّي، مع انهيار الخدمات والأوضاع المعيشية، إلى مظاهر احتجاجية، وهذا ما قد يضطره إلى مزيدٍ من القمع، وسيكون نتائج ذلك وبالاً أكبر. يريد النظام، في اعتقاله الإعلاميين، إغلاق طريق الاحتجاجات ما أمكنه، وهو بكل الأحوال سيرة حياته، أي الاعتقال.
في الأيام الأخيرة، لاحظنا تطويق النظام مشكلة كبيرة في مدينة السويداء، حيث قارب الوضع من الانفجار، وهناك تسريباتٌ تؤكد اتصال الرئيس بشار الأسد بالشيخ بهجت الهجري لتطويق إشكال استخفاف ضابط أمن كبير به. تزامنت المشكلة الأخيرة مع كتابات مندّدة بالانتخابات، ويبدو أن طيّ مشكلة الضابط ستسهل لأجهزة السلطة تطويق قضية تلك الكتابات، ودفع المدينة إلى تجدّد العهد للرئيس.
كذلك انفجر الوضع في الحسكة، ويتخوّف النظام من رفض قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إجراء تلك الانتخابات في مناطق سيطرتها، حيث سيعني ذلك الرفض أن السلطة السورية لم يعد لها من وجود هناك، وأن “قسد” و”مسد” و”الإدارة الذاتية” ليست حبراً على ورق. النظام وروسيا يحاولان تطويق الإشكال هناك، وبما يبقي النظام في تلك المدينة، ويعزّز الوجود الروسي كذلك.
الأمر عينه في مدينة درعا، حيث تؤكد التحقيقات الصحافية والأخبار أن الأوضاع غير هادئة، ومناطق عديدة في المدينة قابلة للانفجار. وبالتالي، كيف سيُجري انتخاباته تلك والمدينة غير مستقرة، وأغلبية أهلها رافضة تلك الانتخابات. مشكلة النظام أن خياراته لا تتعدّى القمع، بينما احتياجات الناس تبدأ بالخبز، ولا تنتهي بتوفير الأمن، وذلك كله ليس ضمن أولوياته، وحتى لو شاء ذلك فليس في مقدوره توفيرها، سيما أن إيران وروسيا غارقتان في مشكلاتٍ داخلية مستعصية.
لا يمكن للنظام أن يَنعم بديمومة صمت الشعب، بعد أن انهارت الخدمات، وتراجعت قيمة العملة، وكذلك بعد أن شعر الناس أن الفصائل المعادية له لن تتمكّن من تغييره أو تهديد المدن الواقعة تحت سيطرته. أيضاً، لم تعد أسطورة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تفيد في حشد الجمهور خلف القيادة؛ وحرب النظام وروسيا وإيران أخيرا ضد “داعش” هي رسائل إلى أميركا وأوروبا بأن بديل النظام هو “داعش”، وبالتالي عليكم شرعنته، والموافقة على الانتخابات المقررة المقبلة.
يجد النظام الذي باشر حملته الانتخابية نفسه محرجاً، فهناك هيئة تحرير الشام و”قسد” والمناطق التي تحت سيطرة تركيا، وهناك المشكلات التي لا يجد لها حلاً في الحسكة والسويداء ودرعا، ويضاف إلى ذلك علوّ الصوت الموالي، والرافض للنظام والاستخفاف بمسألة الانتخابات، ولسان حالهم يقول: كيف تتم هذه الانتخابات، والنظام ليس قادرا على تأمين الخبز أو الوقود أو الكهرباء وسواه كثير.
لا يُحسد النظام عما هو فيه، فهو سبب مأساة سورية منذ 2011 ومن قبل، ولكنه أضاف إلى أعدائه كتلاً مجتمعية جديدة، وذُكرت أعلاه بعضها، وهناك كتل أخرى ما زالت تداري، وتهمس همساً بمشكلاتها، وهذه تتجاوز الأغلبية الصامتة، لتشمل كذلك فئاتٍ واسعة من الجيش وأجهزة الأمن. ويشكل انهيار قيمة العملة مشكلة كبيرة للفئات أعلاه، حيث جنون الأسعار أكبر من أن تستوعبه الأجور، وبالتالي الاحتجاجات قادمة.
إذاً القضية الراهنة الآن في سورية لا تختصر في أصواتٍ إعلامية ناقدة، ويتم اعتقال بعضها. القضية تكمن في مزيد من الانهيار الاجتماعي ورداءة الوضع الاقتصادي وغياب أفقٍ للحل السياسي، وشعور الأغلبية بأن النظام يتجاهل أحوالها، ويُجري انتخاباتٍ رئاسية لا تُسمِن بعد جوعٍ كبير، ولن تتغير حياتها التي تزداد بؤساً على بؤسٍ وكل يوم.
المصدر: العربي الجديد