قراءة في رواية. طيور العنبر

أحمد العربي

ابراهيم عبد المجيد روائي مصري متميز. قرت أغلب رواياته. طيور العنبر هي الجزء الثاني من روايته عن الإسكندرية. المسماة “لا أحد ينام في الإسكندرية”. وهي تأريخ اجتماعي سياسي لمدينة الاسكندرية بقالب روائي. في مرحلة تاريخية مفصلية في مصر. فترة تأميم قناة السويس.1956. وما انعكس على واقع حياة مصر كلها. والإسكندرية خاصة على كل مستويات الحياة .

الرواية نموذج للكتابة الشمولية التي تتكلم بلسان حال مجموعة كبيرة من الأشخاص. القاسم المشترك بينهم أنهم من الاسكندرية. وأنهم يعيشون في حي واحد فيها. وأنهم أقرب ليكونوا من قاع المجتمع: سليمان، حبشي، محمود القزعه، محمود الملاح، بن مطحون، الابله نرجس، نوال، حكمت، كروان، الديب، خير الدين… الخ. هؤلاء كلهم وغيرهم بحياتهم اليومية ومشاكلهم، باحلامهم وآمالهم، محور هذه الرواية. امّا الحدث الاجتماعي السياسي  فيكاد يكون تيار جارف ينعكس على كل منهم بطريقة مختلفة

مركز الحدث الروائي حي شعبي بجوار ترعة المحمودية، المتفرعة عن النيل والمساكن المجاورة له. سليمان الشاب الذي نشأ وله عم يحب الكتابة الروائية. كان منشغل بتاريخ الحضارة المصرية. ذهب الى منابع النيل منذ زمن بعيد ولم يعد. تحول إلى ملهم لسليمان الذي أخذ يقرأ بكثافة ويحلم أن يكون روائيا كعمّه. اما حبشي فهو رجل لا يتذكر أصله. فمنذ طفولته يسكن في خشة بجوار الترعة. وان امه وابوه ماتوا وهو صغير . استمر بالعيش بالكوخ. تزوج من فتاة عابرة وأنجب منها. كان يلتقط المواليد اللقطاء على حافة الترعة ويربيهم وتزداد عائلته. وتهرب زوجته الاولى. ويتزوج ثانية وثالثة. ويزداد عدد أولاده اللقطاء والاصليين. ويعيش حياته مثل طرزان على حافة الترعة. أما الديب المسفر، ذلك الساكن دوما سطح القطار لحماية بضائعه. حكاياه الغريبة أقرب إلى حكايا السندباد. يعيشها يقين ويرويها كنبي. كذلك الشباب العاطل عن العمل، الجالس في مواجهة مدخل الملّاحة (سوق السمك) يراقب النساء. يعشن أحلام يقظتهم مشبعين -وهميا- احتياجاتهم الجنسية.  اما ابله نرجس فهي تعمل خياطة للحي. يجتمع لديها كثير من البنات ليتعلمن ويدخلن في تفاعل يظهر تفتحن للحياة وللحب، والبحث عن زوج من شباب الحي، يعدن من خلاله إنتاج الحياة المستمرة للابد. نوال الممرضه ذات الصوت الجميل التي يعشقها طبيب شيوعي، ولا تكتمل فرحتها به، حيث يعتقل مع غيره من الشيوعيين، الذين اختلفوا مع الدولة. سجنوا و اعتقلت هي أيضا لفترة من الوقت.د. وقبلها حصلت اعتقالات طالت الإخوان المسلمين. بعدما حصل الخلاف بين عبد الناصر والاخوان. ومحاولة اغتياله في الاسكندريه. عبد الناصر الذي رد على منع تمويل بناء السد العالي وأممّ قناة السويس. رفض الإنكليز والفرنسيين ذلك. وقرارهم الحرب ضد مصر. ودخول (إسرائيل). معهم في الحرب ضد مصر. مصر التي قررت أن تحارب وتواجه العدوان، بلسان عبد الناصر. الحرب التي عاشها اهل الاسكندريه بكل كيانهم. البعض تطوع للقتال في بورسعيد التي احتلها  المعتدين. البعض طُلب إلى الجيش ليشارك. هجوم بعض طيران العدوان على الاسكندرية نفسها. ورد المضادات الارضية وإسقاط بعض طائرات العدوان. اسكندرية بعد العدوان غيرها قبله. اليهود في مصر كلها ومنها الاسكندريه. يقررون مغادرة مصر، البعض منهم كان جاسوسا، والبعض خاف على نفسه ان يُحسب عدوان (اسرائيل) عليهم. غادر الكل تباعا. كانوا جزء من بنية المجتمع ولهم حياتهم بها عبر مئات السنين. لهم أعمالهم وتجارتهم وعلاقاتهم واحبابهم. كل ذلك ذهب معهم وترك وراءة فجوة ستتأخر حتى تزول. وما حصل مع اليهود سيحصل مع الأجانب اليونانيين والطليان وغيرهم. الذين سيجدون أنهم مستهدفين من سياسات التمصير والتأميم القادم. يحزمون أمتعتهم و ينهون أعمالهم ويرحلوا. ستتحول أعمال الصيرفة وغيرها للمصريين. سيرحلون ويتركون في نفوس الاسكندرانيين الذين تعاملوا معهم غصة وفراغ. (كالعربي) الذي عاش عمرة بينهم ويعمل معهم. يفتقد (كاتيا) اليونانية. ويعيش مع جورجيت الايطاليه. يحس بفراغ حياته عند ذهابهم. ويضيع لفترة في الحانات، لكنه سيقرر اخيرا ان يزرع نفسه في مجتمعه وبين أهله وناسه. حيث سيبحث عن بدائل حياتية جديدة. يحس الناس بحضور السلطة الجديدة. سواء عبر الهيمنة الامنية. او اعتقالات الإخوان وبعدها الشيوعيين. ولكن سيكون لعبد الناصر حضور معنوي كبير. بصفته القائد والبطل. فهو الذي أعاد قناة السويس للشعب المصري وهو من واجه العدوان الثلاثي، ومن صنع الوحدة مع سورية وقتها. رغم تحفظ البعض أن شروط الوحدة لم تنضج تماما. الناس في اسكندريه ينجرفون في نهر الحياة. حبشي يتزوج الثالثة، الأبناء واللقطاء يزدادون. أصبح يدور الاسكندرية باحثا عن اللقطاء، يربيهم للحياة وعذابها كما يقول. الصبايا عند ابله نرجس يكبرن واغلبهن يتزوجن وتتفرق بهم سبل الحياة. ويعوض عنهم فتيات من الجيل الجديد، يتعلمن الخياطة والحياة. كروان يكبر ويحب سعده ابنة الجيران. وخير الدين مريض السل يتعالج ولا يشفى ويموت اخيرا. ويصبح فقيد الحي كله. اما (بن مطحون) تاجر البهار فهو مسكون بالعطاره وهوسها. وادعاء أن أصوله من الهند وأنه سيعود يوما لهناك. صناعته خلطات عجيبة من المقويات الجنسية التي يستفيد منها في غزواته مع محمود. أما محمود الآخر المسكون بالسينما والاخراج والتمثيل، فيقرر ان يسافر الى أوروبا وفعلا يصل إلى إيطاليا ليعيش مع واحدة من الإيطاليات الراحلة من مصر. يصبح ممثلا ثانويا هناك. أما سليمان فيقرر أن يبدأ رحلة عمه بالكتابة الروائيه. فهو قارئ نهم جدا. يسير كروان على طريقه. في القراءة والاهتمام بالشأن العام. وفي البحث عن المعنى والجدوى من الوجود الإنساني الفردي والعام. الناس هنا كلهم يعيشون كعائلة واحدة، يعيشون أتراحهم وأفراحهم ككيان واحد

 هنا الاسكندرية؛ نهر الحياة يتدفق والناس كلهم امامهم همومهم الشخصية وآمالهم وحياتهم يعيشونها، عيونهم دائما على المستقبل بصفته حياتهم القادمه الافضل

تنتهي الرواية بموت خير الدين في المشفى في القاهرة، إحضاره للاسكندريه، ودفنه بالحي. تصرف اهل الحي معه وكانه ابنهم جميعا. احتضانهم لحبيبته وخطيبته (الجوني)، ومساعدتها على تجاوز محنتها بفقده

الاسكندريه مدينة من صناعة التاريخ، سميت على اسم الفاتح الاسكندر. على خاصرة البحر. وهي مرفأ حياة لكل العابرين ولأهلها عبر التاريخ

. في قراءتها نقول: ميزة الرواية وروعتها انها تدوين لحياة الناس العاديين والمهمشين. في مرحلة تاريخية مفصلية. بلسان حالهم كبشر وافراد وعلاقات وهموم وآمال. حياة يتحركون فيها ليصنعوا لهم وجودا ذا معنى أو حياة ممكنة أو أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى