إنّها العاشرة تقرع باب الجحيم. ما زال عوليس السوري يسطّر أوديسّته باحثاً عن وطن يعيد بناءه ممّا أزهر فوق عشب الذاكرة، ومن بقايا أنقاض وطن هدّمته معاول البرابرة لكنّه بقي شامخاً في حواكير الروح والقلب.
إنّه الفصل الأخير في سِفر النشور. مشرّداً ومهجّراً ومطارداً ما يزال السوريّ، يلملم قصاصات حياته الملونة متناثرة بين الخيام في السهوب وفي الكهوف، وبين الشعاب على القمم. يخطّ ملحمته في الهواء وفوق الماء، بين شقوق الجراح وعلى جدران الزنازين المخضبة بأنفاسه المحمومة، وبشظايا دمه المشتعلة بنيران الغضب.
لكنّه إزميل الزمن يسدّد ضرباته هنا وهناك، يقطع ما تحطّب عن شجرة الحياة، ينزع الخوف والقلق من المحاجر المتجمدة، ويجرف من صدورٍ ضاقت بالقهر ما استوطن في جنباتها من أشواك الشكّ، فيعود للعيون التماعها وينبت للقلوب أجنحة مورّدة لتبتعد عن اليأس وتنضمّ إلى جوقة الأحلام الراقصة.
ما يزال عوليس ينحت بأظفاره صخرة المستحيل، ويحفر بأصابعه المدمّاة بئراً لا قرار لها يسمّيها الأمل. يصرخ بصورته الممزقة وبنا:
يا أبناء أمّي الذابلة وأبي المصلوب في عراء البرد والخوف، نحن السوريين بملامحنا الشرقية الناحلة وبالقمح الذي يستوطن بشرتنا المصقولة بالحنين، نحن أولاد اليتيمة السمراء بجيناتنا المتأصلة في نقيع الحزن والخيبات، نحن الذين لم تمسسنا خيمياء الحداثة، ولم تعبث بعقولنا البكر مباضع المختبرات، بصبغيّاتنا التي أنضجتها الرمال الحارقة، وبما وسمت به أرواحَنا النجومُ من خرافات، نعلن أن أسطورة بعثنا من رمادنا الكونيّ ستتحقق. وسينبجس ماء اليقين من بين الرمل والحصى وأنّ ثورتنا على الطغاة وعلى ذواتنا الحمقاء المنكسرة ستنتصر.
لن نبقى مرضى الشكّ والنزق، وأسرى للتذرّر والتشرذم والانقسام. هل ينقصنا الرّشد أم تعوزنا الحكمة كي نزيل الغشاوة عن قلوبنا ونرى أبعد ممّا نرى، أم إنّ فاتورة الموت والدمار أقلّ ممّا ينبغي كي نبرأ ونتحرّر من أوهامنا، وممّن يعتاش على دمائنا، وكيما نوحّد الجهود والحناجر والرايات، ونمضي في طريقنا المفضي إلى الحلم!!؟؟
يا أبناء أمّ
لم نكن حين صدحت حناجرنا بالحرية والعدالة والكرامة ننشد سلطة أو ثروة، ولم نرغب قطّ في التأسيس لحالة ثأر أو انتقام من جلاّدنا الدمويّ، ولم يدر في خلدنا مطلقاً أن يؤول وطننا المستعاد لفئة منه أو طائفة أو عدد. لطالما كان حلمنا السوريّ واحداً وإن تعدّدت ألوانه، وأهدافنا بسيطة معلنة وواضحة، كذلك فإنّ الطريق مضيئة ومعبّدة بالمبادئ الإنسانية والقيم السامية.
مع ذلك فإنّ ثورتنا ليست أقلّ من نهر عظيم هائج يحتاج في بحثه عن المصبّ إلى ضفافٍ عالية وقويّة لا إلى حدود وسدود.
في زحفنا المقدّس خضنا في البحار والقيعان وبين أشداق النار، وتهنا في الغابات والوديان وفي معارج الجبال، داهمتنا الوحوش والقوارض والغيلان المفترسة، وواجهنا أخطار الفناء جميعها، لكنّنا تخلّصنا من أكبال الذعر والعجز، وتجاوزنا أهوال الطريق، ونجونا من مصائد الموت، وستنتهي أوديسّتنا بعودتنا المظفرة إلى فردوسنا المحتلّ لنطرد الغزاة والطغاة، ونطبع قبلات الحياة على شفاه الحبيبة المتيبسة من هجرٍ ونكرانٍ وفقد.
لن نردم جراحنا، تلك التي حفرتها أنياب الوحوش، سنعرضها للشمس ونجففها على نار الحقيقة، سنعيد رفع السارية ونخرج التاريخ من قمقم النسيان، وننفض الغبار عن ماردٍ عنيدٍ اسمه القدر، وسترون كيف لقضاء التاريخ ولقدر الثورات ولأصواتكم الهادرة أن تأكل قلوب الجبابرة الرخوة وتبدّد ريح أرواحها الصفراء.
يا بني أمّي
إنها السنة العاشرة في تقويم الحرب وستكون الأخيرة كما يحدّثني اليقين، سيرحل عن منازلنا أرباب الشرّ، ويأخذوا معهم الطواغيت وخفافيش العتمة وموتاً لا يليق إلاّ بهم، سيبتلعهم ثقبٌ أسود كبير يقودهم إلى مستقرّ العدم.
دعوه ينام بهدوء أو فلتتركوه بسلامٍ يموت ذلك الماضي المدجّج بالأسى والفشل والخيبات، سننجو بحكمتنا وبالصبر من براثنه، ونفتك بالذعر والألم، وبمسببات حزن يريد ألا ينتهي. الوقت لنا وطوع ريشتنا فلنشكّل به حياة جميلة تمرح في حقولها المزهرة طفولة أجيالنا القادمة. الوقت الحلو القادم لنا يستلقي الآن بين أحضان ربّات الخصب والجمال، كما لو أنّه تخت شرقيّ للعود والساز والناي، يعزف أغاني الأعراس للحريّة والفرح.
المصدر: صحيفة اشراق
نعم نتمنى ان تكون السنة الاخيرة في تقويم الحرب بسورية