حدود التغيير في السياسات الأميركية تجاه المسألة السورية في عهد بايدن

لم يكن للمسألة السورية مكانٌ في الحملة الانتخابية للرئيس المنتخب جو بايدن، ولذلك يصعب استشراف سياسة إدارته تجاهها، خاصة إذا علمنا أنّ سورية لم تكن أولوية سياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولم تشكل مرتكزًا محوريًا في السياسة الأميركية منذ استقلالها في عام 1946، ولكنّ السنوات العشر لاستمرار الكارثة السورية ربّما تدفع إدارة بايدن إلى الانتقال من سياسة “إدارة الأزمة” إلى الانخراط الجدي في عملية الحلّ السياسي، المرتكز على القرار الدولي 2254، خاصة أنّ ثمة مؤشرات توحي بأنّ سياسة الإدارة الجديدة ستكون مختلفة عن سياسة إدارتي أوباما وترامب، نتيجة ضغط حجم الكارثة السورية من جهة، وتعثر الحلول التي دعمتها روسيا من جهة ثانية، وعدم الانخراط الجدّي للإدارتين الأميركيتين السابقتين من جهة ثالثة.

ولا يخفى على أحد أنّ سياسة بايدن ستركز على الداخل الأميركي بالدرجة الأولى، من خلال إعادة توحيد الأميركيين بعد التصدعات التي سببتها إدارة ترامب، وإنعاش الاقتصاد الأميركي بعد تداعيات جائحة كورونا، وأخيرًا ضبط السياسة الخارجية لتصحيح ما يمكن من التراجع الأميركي عن الدور القيادي في العالم. وقد أكد الرئيس المنتخب أنّ بلاده ستأخذ “دور القيادة العالمية”، خاصة في مجال قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا شك في أن هذا التوجه لن يسرَّ النظام السوري وأمثاله.

محددات سياسة إدارة بايدن تجاه المسألة السورية

من أجل صياغة تقدير موقف أقرب إلى واقع السياسة الأميركية في سورية، قد يكون من المفيد -إلى حدّ ما- العودة إلى محددات السياسة الخارجية الأميركية، إبان إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، باعتبار أنّ بايدن كان نائبًا له، مع العلم أنّ مستشارين لبايدن قد نصحوه -وفقًا لشخصيات من الجالية السورية بأميركا- بـ “التعامل بطريقة مغايرة لما كان عليه الوضع إبان إدارة أوباما، من خلال تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها إدارته، وأدّت إلى مزيد من الدماء والتهجير”. ولكن من المؤكد أنّ إدارة بايدن ستتعامل مع ما خلّفته إدارة ترامب في سورية، من خلال المحددات التالية: قانون قيصر، الوجود العسكري الأميركي، العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الرهائن الأميركيين لدى النظام السوري، شروط العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، التنافس مع روسيا، المصالح الأمنية الإسرائيلية، الدور الأميركي البارز في التسوية السياسية. ويمكن القول: إنّ هذه المحددات ستكون من مرتكزات سياسة بايدن إزاء المسألة السورية.

ومن المؤكد أنّ إدارة بايدن لن تباشر سياستها السورية من نقطة الصفر، لكونها على معرفة بتفاصيل المسألة ومواقف الأطراف المختلفة، خاصة معرقلي التوجّه نحو الحلّ السياسي وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، أي النظام وحليفيه الروسي والإيراني. وقد أكد مرشحا وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية أنّ إدارة الرئيس بايدن سوف تولي المسألة السورية، وما يرتبط بها من تفرعات إقليمية ودولية، أهمية خاصة.

وفي سياق هذه المحددات، ستستمر إدارة بايدن في تطبيق “قانون قيصر”، وربما تفرض حزمًا جديدة من العقوبات بموجبه، وقد ترفع العقوبات إذا انخرط النظام السوري في عملية الحل السياسي، طبقًا للقرار 2254، أو لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي، طبقًا لتصريحات بعض الدبلوماسيين الأميركيين، أمثال السفير السابق في سورية روبرت فورد وجيفري فيلتمان، الذين يدعون إلى تخفيف العقوبات والإصلاحات في ظلّ النظام السوري (خطوة خطوة)، وستحافظ على القوات الأميركية في شمال شرق سورية، بهدف الهزيمة النهائية لتنظيم (داعش) في المنطقة، ومساندة مشروع (قسد) للحكم الذاتي، وهذا أمرٌ مرهون بالمصلحة المشتركة الأميركية-التركية، خاصة أنّ لتركيا أهمية إستراتيجية لا يمكن تجاوزها. ولكنّ تعيين الدبلوماسي بريت ماكغورك مديرًا لملف الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي سيكون سلبيًا، من زاوية دعمه الحكم الذاتي لـ (قسد). وقد جاء في بيان صادر عن مكتب بايدن أنّ الدور الأساسي لمجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض “يتمثل بتقديم المشورة ومساعدة الرئيس، بشأن الأمن القومي والسياسات الخارجية، وتنسيق تلك السياسات عبر الوكالات الحكومية”.

وفي المقابل، يبدو أنّ لوزير الخارجية المعيّن أنتوني بلينكن رأيًا آخرًا في مجمل الملف السوري، قد يكون تأثيره في خيارات الرئيس بايدن أكثر من غيره. ويبدو أنّ المسألة مرتبطة، إلى حد بعيد، بما ستؤول إليه العلاقات الأميركية-التركية، ولكنّ الأهم ديناميات التنافس التقليدي بين المؤسسات الرئيسية المؤثرة في رسم السياسات الخارجية، ومدى تأثيرها في قرارات الرئيس: وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، مجلس الأمن القومي، وكالة المخابرات الأميركية (CIA).

 وبناء على ذلك، قد تزيد إدارة بايدن الدعمَ للإدارة الذاتية في البداية، وقد تصل إلى حد الموافقة على “الحكم الذاتي” لمكوّنات المنطقة، عملًا بتوصيفات مركز (راند) الأميركي التي نشرها في تقارير عديدة له منذ سنة 2016، إضافة إلى أنّ المحافظة على القوات الأميركية، في شمال شرق سورية، تهدف إلى منع إيران وروسيا من توسيع نفوذهما في هذه المنطقة، بل إلى خروج الميليشيات الإيرانية من سورية، بحيث لا يكون بوسع إيران البقاء وتهديد استقرار سورية والمنطقة.

ومن المتوقع أن تسعى الإدارة للإفراج عن الرهائن الأميركيين لدى النظام السوري، لدعم حضورها في الداخل. وهنا ستبدأ المساومات والتنازلات وتشابك الملفات بين النظام والإدارة الجديدة، وسيصعّب ذلك بلورة الحديث عن التنازلات التي يمكن للإدارة تقديمها للنظام السوري، بحيث لا يمكن الركون إلى تصريحات فريق الإدارة، التي تؤكد التشدد في محاصرة النظام، وعدم الاعتراف بشرعية الانتخابات التي سيجريها في صيف هذا العام، والدفع في اتجاه الحل السياسي.

أهمية الدور الأميركي في الحل السياسي

تنتظر مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، المنخرطة في الصراع السوري، موقفَ الإدارة الأميركية الجديدة التي تمتلك نفوذًا على مختلف هذه الأطراف، من عملية التسوية السياسية للمسألة السورية. حيث إنّ وجود القوات الأميركية في شمال شرق سورية (يمتلك التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية 33 موقعًا عسكريًا بين قاعدة ونقطة)، إضافة إلى الأهداف التي ذكرناها أعلاه، يُعدّ ميزة إستراتيجية للتفاوض مع روسيا، حول عملية الانتقال السياسي في سورية، وإجبار النظام السوري على قبول القرار 2254 الذي يتضمن تشكيل حكم غير طائفي، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة بإشراف الأمم المتحدة. ومن أجل تحقيق ذلك، قد تتجه إدارة بايدن إلى تنشيط دبلوماسيتها لإعادة بناء تحالف أصدقاء سورية، بهدف زيادة الضغط على روسيا للقبول بحلّ سياسي يضمن تطبيق القرار 2254، خاصة بعد فشل مساري آستانة وجنيف.

والسؤال هنا: هل يمكن لإدارة بايدن أن تجعل الملف السوري من أولوياتها، على صعيد سياستها في الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب، مع التفاوض مع إيران لتجديد اتفاقية إيقاف البرنامج النووي الإيراني؟ أم أنها ستدعو النظام إلى التخلص من النفوذ الإيراني، والاكتفاء بتغيير سلوكه تجاه شعبه؟

ولعل دور وزير الخارجية المعيّن أنطوني بلينكن، بما أعلنه من مواقف إيجابية تجاه المسألة السورية، يكون وازنًا في الإدارة، للدفع في اتجاه عملية انتقال سياسي جدي في سورية. وقد قال، في مقابلةٍ أجريت معه في أيار/ مايو 2020، منتقدًا تعاطي إدارة أوباما التي كان واحدًا منها: “علينا أن نعترف بأننا فشلنا في منع وقوع خسارة مروعة في الأرواح. لقد فشلنا في منع النزوح الجماعي للأشخاص داخليًا في سورية، وبالطبع خارجيًا، كلاجئين. وهو شيء سآخذه معي لبقية أيامي. إنه شيء أشعر به بقوة”.

ومقياس صدقية هذه المشاعر يكمن في مدى تنشيطه للحراك الدبلوماسي الدولي متعدد الأطراف بشأن المسألة السورية، من خلال دعوة الحلفاء كافة إلى العمل بحزم، خاصة مجموعة “أصدقاء سورية”، من أجل المضي قدمًا لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي 2254. وفي الوقت نفسه، الحوار مع روسيا (الطرف الدولي المؤثر في المسألة السورية) للوصول إلى رؤية مشتركة للحل السياسي، على قاعدة ما كان بلينكن قد صرّح به، في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2015، عندما طُلب منه توضيح مسألة رحيل الأسد: أهي شرط مسبق لإجراء مفاوضات جوهرية مع روسيا أم لا، وكان جوابه “ليس شرطًا مسبقًا، ولكنّ العملية التي سيتم إطلاقها يجب أن تؤدي إلى رحيل الأسد”. وبعد انتخاب بايدن، سُئل بلينكن عن احتمال تطبيع إدارة بايدن العلاقات مع نظام الأسد، فقال: “من المستحيل عمليًا أن أتخيّل ذلك”. ويمكن الاستنتاج أنّ إدارة بايدن ستكون مهتمة بتنفيذ “إستراتيجية الضغط الأقصى ضد الأسد”.

وعندما كان بايدن نائبًا للرئيس أوباما، تراجع الدور الأميركي في سورية لصالح التدخل العسكري الروسي، بدءًا من 30 أيلول/ سبتمبر 2015. أما اليوم فإن المعطيات تشير إلى أنّ إدارة بايدن ترغب في شراكة جزئية مع روسيا، وليس على مستوى إستراتيجي، في المسألة السورية، بهدف احتواء الطموحات الروسية بخطوات تضمن المصالح الروسية في سورية، مقابل موافقة روسيا على الانخراط في الحل السياسي، المفضي إلى عملية الانتقال السياسي.

 ولا شك في أنّ الانتخابات الرئاسية التي يُهيئ لها النظام السوري، والمقررة في صيف العام الحالي، ونية النظام التجديد للأسد، ستكون محطة مفصلية حيال تعامل إدارة بايدن مع المسألة السورية، لجهة الدفع بتنحية الأسد من عدمه.

فهل يختار بايدن ما فشلت السياسة الروسية فيه، حتى الآن، أي إعادة تعويم بشار الأسد؛ أم يستخدم أوراق الضغط الأميركية: السيطرة على شرق الفرات، حيث تتركز منابع الطاقة والثروات الزراعية، وورقة العقوبات “قانون قيصر” على رجالات النظام السوري وعلى كلّ من يدعمه، وعرقلة المساعي الروسية لعودة اللاجئين وإعادة الإعمار من دون حل سياسي يقوم على قرار 2254؟

 ويبدو أنّ التحدي الذي سيواجه إدارة بايدن هو مدى قدرتها على إقناع روسيا وإيران بقبول الحل السياسي في سورية، مستغلة أنهما غطستا في مستنقع دولة فاشلة، وتريدان الخروج منه بأقل الأضرار. مع العلم أنّ الرئيس المنتخب بايدن كان قد اعترف، أمام مجلس العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي في عام 2018، بأن جهود إدارة أوباما لإقناع موسكو بالانتقال السياسي، بدون الأسد، لم تثمر إلا وعودًا كاذبة. وتابع اعترافه قائلًا: “بدلًا من ذلك، أطرح ما يبدو أنه ترتيب مجالات نفوذ مع موسكو، ضمن إطار رؤية لسورية مقسّمة”. وقال: “هكذا، يمكنني أن أرى أين يمكنك العمل في مكان يوجد فيه ملاذ آمن بشكل أساسي لأجزاء معينة من ذلك البلد، ويمكنك تقليل عدد الأشخاص الذين يتم تهجيرهم وقتلهم بشكل كبير. لقد حاولنا ذلك أيضًا، ولم يلعبوا بشكل عادل هناك”.

وهكذا، فإن تجربة السوريين مع الولايات المتحدة الأميركية تشير إلى تراجع إدارتي أوباما وترامب عن إعلاناتهما في تأييد مطالب الشعب السوري في الحرية والكرامة؛ فأطال ذلك أمد المقتلة التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. فهل يدخل الرئيس بايدن فضاء الكارثة السورية ليكتب فصلًا جديدًا فيها، بالترافق مع تحرّك نخبة سورية في أميركا، لتشكيل مجموعة ضغط على صانعي السياسات، يكون فاتحة خير على الشعب السوري، حين يجري العمل الجدي نحو انتقال سياسي حقيقي من الاستبداد إلى الديمقراطية؟

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى