في هذه الأيام، ينشُط تيار في الغرب، للضغط على مراكز صنع القرار، بغية رفع العقوبات الأوروبية والأمريكية، أو تخفيفها، عن نظام الأسد، بذريعة أن تلك العقوبات “تفاقم الوضع الإنساني المتردي بالفعل في سوريا”، وفق كلمات خبيرة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ألينا دوهان، التي تمثل إحدى شخصيات هذا التيار.
وبطبيعة الحال، هذه ليست المرة الأولى التي تُرفع فيها أصوات في الغرب، تدعو إلى رفع العقوبات عن الأسد، بوصفها تنال من المدنيين أكثر مما تنال من النظام نفسه. لكن هذه الأصوات اكتسبت زخماً جديداً مع وصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض.
وإن كان من المُبكر بعد، الجزم بالأثر الذي ستحدثه هذه الأصوات، على سياسة بايدن تجاه الملف السوري، وتحديداً، في ما يتعلق بـ “قانون قيصر” الشهير، يبرز في هذا السياق تساؤل قلما يتم تناوله، حينما يتم الحديث عن أثر العقوبات على السوريين. هل أزمة السوريين المعيشية الحالية، هي نتاج العقوبات أساساً، أم نتاج عوامل أخرى أكثر تأثيراً من العقوبات؟
للإجابة على هذا التساؤل، قد يكون من المفيد إجراء مقارنة بين أثر العقوبات على الوضع الاقتصادي السوري، وبين أثر العوامل الأخرى. وقد يكون أبرز ما يمكن أن يساعدنا في إجراء هذه المقارنة، هو تناول سعر صرف الليرة السورية، بوصفه مؤشراً لوضع الاقتصاد.
ولإجراء مقارنة جزئية، سنتناول حدثين أثّرا بشدة على سعر صرف الليرة، خلال الشهرين الأخيرين. الحدث الأول هو صدور الحزمة السادسة من عقوبات “قيصر”، التي أضافت مصرف سورية المركزي إلى قائمة المعاقبين. وهي أشد حزمة عقوبات، نظراً لأنها ألمحت إلى احتمال معاقبة المتعاملين مع المركزي. لكن هذا التلميح لم يُوضع موضع التنفيذ بعد، مما يعني أن أثره بقي ضمن ما يُعرف بـ “العامل النفسي”. فكيف أثّر هذا الحدث، نفسياً، على سعر صرف الليرة؟
الإجابة، يمكن اختصارها بأن الأثر تلاشى، خلال 10 أيام فقط. ففي اليوم الذي سبق فرض حزمة العقوبات، 21 كانون الأول/ديسمبر، أغلق سعر الصرف عند 2865 ليرة للدولار الواحد، وفق سعر السوق السوداء. ومع فرض حزمة العقوبات يوم 22 كانون الأول/ديسمبر، أخذ سعر صرف الليرة بالتهاوي، ليفقد 3,70% من قيمته، خلال أسبوع، ويتراجع إلى 2975 ليرة للدولار الواحد، وذلك بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر. لكن، في الأيام الثلاثة التالية، تحسن سعر صرف الليرة بصورة متسارعة، ليُغلق عشية رأس السنة عند 2870 ليرة للدولار الواحد. أي أن أثر الحزمة السادسة من قانون “قيصر”، تلاشى تقريباً.
وتذبذب سعر صرف الليرة السورية في الأيام التالية، خلال شهر كانون الثاني/يناير، ضمن هوامش محدودة، وصولاً إلى عشية الحدث الثاني، وهو طرح مصرف سورية المركزي، ورقة الـ 5000 ليرة سورية الجديدة، للتداول، يوم الأحد 24 كانون الثاني/يناير. ففي اليوم السابق، لهذا التاريخ، أغلق سعر الصرف عند 2920 ليرة للدولار الواحد. وخلال أربعة أيام فقط، هوى سعر الصرف وصولاً إلى 3030 ليرة للدولار الواحد، وذلك يوم الخميس 28 كانون الثاني/يناير. أي أن الليرة فقدت 3,65% من قيمتها، وهي قيمة توازي تقريباً تلك التي فقدتها بعيد فرض الحزمة السادسة من عقوبات “قيصر”، قبل شهر، والتي استعادتها الليرة لاحقاً.
أي أن أثر إجراءات النظام النقدية، توازي تماماً، أثر “قيصر” في أشد حُزمة عقوبات منه حتى الآن. لكن، هل تستعيد الليرة ما خسرته بعد طرح ورقة الـ 5000، كما سبق واستعادت ما خسرته بعد حزمة العقوبات الأخيرة من “قيصر”؟
الجواب نجده في إجماع معظم المحللين الاقتصاديين الموالين للنظام، وعلى صفحات وسائل إعلامه المتنوعة، إذ يجمع هؤلاء على أن هناك شروطاً لتلافي آثار طرح الـ 5000 الجديدة، أبرزها، سحب كتلة نقدية موازية لتلك التي طُرحت في الأسواق مع الـ 5000، من أوراق نقدية تالفة أو مهترئة، من فئات نقدية أصغر. وهو إجراء أكدت السلطات المعنية داخل نظام الأسد أنها ستعمل جاهدةً على تنفيذه. لكن توقيت طرح الفئة النقدية الجديدة، دفع بالذاكرة إلى تساؤل سبق أن طُرح بكثافة حينما أُعلن عن ميزانية العام 2021 قبل شهرين، وهو كيف سيموّل النظام العجز في الموازنة الجديدة؟ فالموازنة الأصغر في تاريخ سوريا، قياساً بسعر صرف الدولار الأمريكي، والتي بلغت 8500 مليار ليرة سورية، تضمنت إيرادات متوقعة، وفق مصادر النظام ذاته، بقيمة 6000 مليار ليرة سورية، أي أن هناك 2500 مليار ليرة سورية، عجزاً في الميزانية، وهو ما يعادل بسعر الصرف الرائج الآن، 825 مليون دولار.
وتضمنت الإجابة على هذا التساؤل الشائك حينها، جملة خيارات مرتقبة من النظام، أبرزها، طرح أوراق نقدية جديدة. لذلك، لم يكن مفاجئاً طرح ورقة الـ 5000، في هذا التوقيت. بل كان متأخراً حتى عن المواعيد التي كانت متوقعة. وبالفعل أقرّ المركزي في بيان إعلانه طرح الورقة الجديدة، أنه طبعها في العام 2018. أي أن المركزي حاول تأخير طرح هذه الفئة النقدية الجديدة، قدر استطاعته، تجنباً لانفلات التضخم عن السيطرة. وحينما أصبح عاجزاً عن المزيد من المقاومة لهذه الخطوة، نظراً لحاجته لتمويل العجز في ميزانية العام الجديد، طُرحت الورقة الجديدة، وتسببت، خلال أيام فقط، بارتفاع الأسعار بنسبة تجاوزت الـ 8%، باعتراف مصادر النظام ذاته.
خلاصة ما سبق، أن آثار طرح ورقة الـ 5000، أكثر عمقاً وتأثيراً على الوضع المعيشي للسوريين، من حزم العقوبات الصادرة في إطار قانون “قيصر”. والذي هو أشدّ نسخة من العقوبات الغربية المفروضة على النظام، حتى الآن. ففي حين تلاشى أثر حزمة عقوبات “قيصر” الأخيرة، خلال 10 أيام فقط، من غير المتوقع أن يتلاشى أثر طرح الـ 5000 ليرة الجديدة، في وقتٍ قريبٍ. بل من غير المتوقع أن يتلاشى هذا الأثر مطلقاً.
وتبقى الخلاصة السابقة، غائبة عن معظم من يكتب في الشأن الاقتصادي السوري من السوريين المناوئين للنظام، أنفسهم، والذين يتورط الكثيرون منهم في تكرار أسطوانة أثر العقوبات “القيصرية” على معيشة السوريين، بصورة تعزز ارتكاز النظام على هذه الذريعة، التي تسمح له بالضغط أكثر، عبر قنوات متصلة به، في الغرب، وصولاً إلى مبتغاه في رفع العقوبات التي طالت بصورة أساسية، مصالح نخبة أثرياء الحرب وأمرائها المحسوبين عليه، بشكل مباشر.
المصدر: المدن