ما هي الأسباب التي تمنع نجاح العمل الجماعي بين السوريين المناهضين للنظام، على الرغم من تميّزهم أفراداً؟ سؤال مشروع يطرحه باستمرار الأصدقاء غير السوريين، والسوريون المعنيون أنفسهم. ظاهرة العمل الفردي، والمبادرات الفردية، باتت واضحة ملموسة، خصوصاً في أوساط من يصنفون في خانة العَلمانيين أو الليبراليين أو الوطنيين السوريين، هذا في حين أننا نجد قدرة أفضل نسبياً على التنظيم، والعمل المشترك بمختلف الأشكال لدى الإسلاميين، على الرغم من الخلافات الكثيرة بين مجموعاتهم العديدة، أو ضمن كل مجموعة من تلك المجموعات، ربما للتعاليم الدينية التي تركّز على أهمية الجماعة، إلى جانب ثقافة وتجربة العمل في الجمعيات الخيرية، دور في ذلك.
هل إخفاق العمل الجماعي بين السوريين أمر له علاقة بالتجارب الشخصية؟ أم بالإخفاقات السياسية، أم بالتباين في توصيف الحالة السورية، وتحديد ملامح المعالجة أو المعالجات المطلوبة؟ أم أن للظاهرة أسبابها العميقة في الواقع السوري نفسه الذي كان باستمرار ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية، وميدان حرب، في أحيان كثيرة، بين القوى التي كانت تريد منذ فجر التاريخ السيطرة على شرقي المتوسط؟ وقد دفع هذا الأمر السوريين باستمرار نحو المراهنة على المنقذ المخلص الخارجي، وذلك في أجواء غياب الإمكانات الذاتية، أو عدم الثقة بها.
ويبدو أن عوامل الجغرافيا، وواقع توزّع القوى الإقليمية الأساسية، وصراعاتها ومشاريعها، قد أثرت على الأوضاع السورية باستمرار، وأدّت، عبر العصور، إلى ترسيخ عقلية استقوائية تُراهن على قوة الآخرين ومشاريعهم، وتستعين بها الأطراف السورية لتعزيز دورها وسلطاتها ضمن مجتمعاتها المحلية، وذلك مقابل الالتزام بما تمليه عليها القوى الخارجية التي كانت تتبدّل وفق نتائج الصراعات على الأرض السورية منذ أقدم العصور، سواء بين المصريين والحثيين والأكاديين، ومن ثم الآشوريين، مروراً بالمراحل الرومانية والأموية، ومن ثم الصليبية والأيوبية والعثمانية، وصولاً إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، وتشكل الدولة السورية الحديثة، حتى وصلنا إلى بداية عهد الاستقلال، وهي المرحلة التي استمرت سبعة عشر عاماً من الحكم المدني، وهو الحكم الذي لم يتمكّن من التأسيس لمشروع وطني سوري، كان من شأنه مساعدة السوريين في تجاوز واقع الاستقطاب بين التيارين، القومي العروبي والديني الإسلاموي.
وجاءت مرحلة الانقلابات التي بلغت ذروتها مع انقلاب “البعث”، وهو الانقلاب الذي سرعان ما خطفه حافظ الأسد الذي تمكّن من تثبيت مواقعه بعد الفشل الذريع الذي تعرّض له المشروع الناصري القوموي في مصر على إثر هزيمة 1967، ومن ثم وفاة جمال عبد الناصر في 1970. وقد وجد حافظ الأسد في أيديولوجية حزب البعث التي تمحورت حول الربط بين النضالين، القومي والطبقي، ضالته؛ فعزّز العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، ومد الجسور من جهة أخرى مع الدول العربية، خصوصاً الخليجية منها، تحت شعار ضرورة تحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. وقد كانت قضية فلسطين بالنسبة إلى نظامه، وما زالت بالنسبة لنظام ابنه ومحور المقاومة، أداة دعائية إعلامية، تستخدم لدغدغة المشاعر الشعبية وإشغالها.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي 1991، تراكمت عوامل التشاؤم لدى مثقفين سوريين كثيرين كانوا يناهضون السلطة، ويتحرّكون، من جهة ثانية، ضمن فضاءات الأحزاب اليسارية والقومية التي كانت تعد من ناحيةٍ معارضة، ولكنها كانت، من ناحية أخرى، قد أصبحت، في واقع الأمر، جزءاً من واجهة الحكم التي هندسها حافظ الأسد في صيغة “الجبهة الوطنية التقدّمية”. أما القوى التي تمرّدت على التدجين، فكان نصيبها القمع والسجن والشيطنة. ولكن اللافت، في هذا السياق، أنه حتى هذه القوى لم تقدّم مشروعاً وطنياً يخصّ الواقع السوري نفسه، ولم تركّز جهدها على الأوضاع المعيشية الصعبة التي كان السوريون يعانون منها. كما لم تكترث هذه القوى بمعاناة السوريين مع الاستبداد والفساد، ولم تُقرأ كما ينبغي، أو تعمّدت الغباء أو الاستغباء في قراءة لعبة النظام في ميدان الإيقاع بين المكونات السورية، وتفضيله لبعضها، وإبعاد بعضها الآخر واضطهاده، في سياق خطته لتكريس مشروعه التسلطي. وإنما ركّزت على السياسة الخارجية، والتقت، في أحيان كثيرة، مع شعارات النظام نفسه، من جهة تأكيد أهمية الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، أو مناهضة الإمبريالية الأميركية، والتمسّك بشعارات المقاومة الخاوية التي كانت تُستخدم للتمويه على عملية أنقاض النظام على الداخل الوطني. فبينما كان النظام يتعامل مع تلك الشعارات من موقع براغماتي نفعي، كانت القوى المعنية تنمّي في أعضائها وأنصارها ووسطها نزعة أرثوذكسية عقائدية متشدّدة، وغالباً ما كانت التخريجات اللغوية الطويلة المعقدة الوسيلة للتغطية على حقيقة ما كان يجري في الواقع العملي؛ وما كان يفعله نظام حافظ الأسد عملياً على الأرض لتثبيت سلطته، واستخدامه مختلف الأدوات، بما فيها الطائفية، من أجل تسويق ذاته، بوصفه صمام الأمن والأمان للطائفة، ولكل المكوّنات السورية التي كانت، وما زالت، تتحسّب لتبعات المشروع الإسلاموي المتشدد في بعده السني.
ومع سقوط نظام صدام حسين في العراق 2003، وقبله انهيار الاتحاد السوفييتي، تراجعت شعبية الأحزاب القومية واليسارية بصورة جذرية، وانفضّ عنها المثقفون والكتّاب والمبدعون بصورة عامة، هؤلاء الذين كانوا يوفرون لها سابقاً ميداناً حيوياً فاعلاً بين الأوساط الشعبية؛ وكانت الأحزاب المعنية تستفيد من الاحترام الذي كانوا يحظون به. ومع الوقت، توزّع أولئك المثقفون والكتاب والمبدعون بين مجموعتين بصورة عامة. مجموعة تبعثر أعضاؤها بين العمل الفردي الذي شمل البحث، والجهد الإعلامي، والمقالات والدراسات النقدية، وذلك في انتظار قادم أفضل.
هذا في حين أن قسماً آخر أسهم في تأسيس إعلان دمشق، ومن ثم هيئة التنسيق. وقد أدّت الإخفاقات التالية بعدد كبير من هؤلاء المثقفين إلى الابتعاد ثانيةً عن الأجواء الحزبية والسياسية بصورة عامة. ومع بداية الثورة السورية، ساهم مثقفون وأكاديميون سوريون في الجهود التأسيسية للمجلس الوطني السوري، وبذلوا مساعي حميدة في ميدان التقريب بين مختلف الأطراف السياسية (إعلان دمشق، هيئة التنسيق، الإخوان المسلمين، الأحزاب الكردية)؛ ولكن سرعان ما دبّت الخلافات، وعاد معظمهم إلى مواقعهم الفردية المختلفة.
والعلة الأساسية التي يعاني منها هؤلاء تتمثل في أنهم خرجوا من مدارات أحزابٍ لم تعد ترتقي إلى مستوى تطلعاتهم، ولكنهم لم يتمكّنوا بعد من الانتظام في أحزابٍ تجسّد أفكارهم وطموحاتهم، وتحقق تفاعلاً مطلوباً بين جهودهم عبر التنظيم.
أما الدعوات الفردية التي تشيد بالديمقراطية، وتبشّر بها، وتجدها حلاً، وتطالب بضرورة الأخذ بها، فهي قد غدت، مع الوقت، مجرّد لازمة جميلة لا تتردّد أصداؤها في الواقع العملي، فالديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً، تقوم في جوهرها على التعدّدية الحزبية، ولا يمكن أن تقوم بصيغة من الصيغ بناء على أفراد وأمزجة الأفراد. والحالة السورية خاصة؛ إذ تمرّدت الكفاءات السورية على أحزابٍ ما زالت تتخذ من الأوهام الأيديولوجية ركيزة لسياساتها، ولا تعطي أي اعتبارٍ للوقائع والمتغيرات التي ظهرت، وتبدّلت، أكثر من نصف قرن. أحزاب مترهلة منهكة أصلاً، وأنهكتها أكثر الأجهزة المخابراتية الأخطبوطية بتدخلاتها المتواصلة التي أسفرت عن الانشقاقات المستمرّة، حتى اضطرت تلك الأحزاب، في نهاية المطاف، إلى التزام الهوامش المسموح بها سلطوياً. وعلى الرغم من محاولاتٍ عديدة جرت لتجاوز هذه الوضعية، لم تظهر بعد بدائل مقنعة من شأنها تأطير الكفاءات المبعثرة المتذرّرة الملتحفة بعوالمها الخاصة.
هناك تعويل مشروع على الشباب؛ ولكن حالة التبعثر والشرذمة تفعل فعلها هنا أيضاً، فقد توزّعت الكوادر الشبابية الواعدة بين المهاجر والمخيمات والداخل الوطني. كما أن الظروف القاسية قد دفعت طاقات شبابية كثيرة نحو العمل ضمن إطار منظمات دولية لها أهدافها وتوجهاتها الخاصة بها.
هناك تبرّم وشكوى مستمرّان من هيمنة الإسلاميين على مؤسسات المعارضة الرسمية، ونقد مستمر لتغلغلهم في مختلف الجهود التي تبذل من أجل تجاوز الواقع الحالي. وفي الآونة الأخيرة، بدأنا نتلمس ملامح خصومة مفتوحة، مفتعلة في معظم الأحيان، بين “العلمانيين” و”الإسلاميين”، الأمر الذي لا يساهم قطعاً في توحيد جهود السوريين المناهضة لنظام الاستبداد والإفساد.
نحن اليوم أحوج ما نكون فيه إلى أحزاب ومنظمات وطنية، تتخذ من الواقع المشخص السوري واحتياجاته محور برامجها وسياساتها، وتعمل من أجل طمأنة السوريين، كل السوريين من دون أي تمييز أو استثناء؛ وتسعى من أجل تعزيز الثقة بينهم، وتمنحهم الثقة بإمكانية الوصول إلى مستقبل أفضل، على الرغم من كل ما جرى، وما زال يجري.
المصدر: العربي الجديد