عبد الناصر العايد ضابط سابق في سلاح الجو السوري، منتمي للثورة السورية، حاصل على ليسانس في العلوم العسكرية، له كتابات أدبية وروائية سابقة.
تنسيقية بولييه روايته الأحدث صدرت عام ٢٠٢٠م. تتحدث عن مجموعة من النساء والرجال يلتقون في مقهى بولييه في باريس. كلهم ناشطون سابقون في الثورة السورية، بعضهم ضباط منشقون والباقي ناشطين ميدانيين. يجمعهم أنهم أبناء الثورة التي غُدرت، فهم أبناؤها الهاربين أو المستقيلين، او الفارين بأرواحهم. بعد أن اصبحت الثورة السورية ضحية كل الأطراف الدولية والإقليمية، وكان الشعب السوري الضحية الأكبر بما قدم وضحى لأجل مطالبته بإسقاط الاستبداد وبناء الدولة الديمقراطية العادلة.
تعتمد الرواية على لغة المتكلم في فصولها حيث يجلس على مقعد السرد في كل فصل أحد شخصيات التنسيقية حيث التقوا وقرروا بنائها. الفصول التي هي تقارير دورية عن جلسات التنسيقية.
زمن اللقاءات هو بعد سقوط حلب وقبل سقوط درعا بيد النظام السوري وحلفائه، في ٢٠١٧و ٢٠١٨م. وأثناء الدوري لكأس العالم في كرة القدم عام ٢٠١٨م. المجتمعون يصلون إلى عشرة اشخاص يزيدون أو ينقصون. هم فيصل السني احد ناشطي الثورة السورية في دمشق. وقيس ادلبي من سراقب، الضابط المنشق عن النظام والملتحق بالجيش الحر في دير الزور. تالا العلوية من الساحل السوري ابنة أحد كبار الضباط والمنتمية للثورة السورية والتي قدمت الكثير للثوار والناشطين. لجين الدمشقية المسيحية التي شاركت بنشاطات الثورة أيضا. سيدرا من اللاذقية ابوها سني وامها علوية. قدمت الكثير من الخدمات لناشطي الثورة. مصطفى اسماعيلي من السلمية منتمي للثورة وأحد ناشطيها. حذيفة من تنسيقية داريا في ريف دمشق. وائل مسيحي من وادي النصارى أيضا من ناشطي الثورة السورية. جابر ابن دير الزور واحد ناشطي الثورة السورية.
تبني الرواية حدثها وفق تناغم وتكامل بين الذاتي عند كل فرد من أشخاصها، مع الحياة المعاشة مباشرة في باريس وأنهم لاجئين أو طالبي لجوء والبعض منهم حصل على الجنسية الفرنسية. وأن ذواتهم مسكونة بما يعيشونه الآن من هواجس وأهواء وأحلام ورغبات وأمنيات. النساء تجاه الرجال، وبالعكس. المظاهر المتحررة في المظهر، تغري بالأهواء الجنسية المكبوتة. والاتهامات التي تصل إلى درجة القول أن البعض من الفتيات يمارسن الدعارة. كل ذلك مسكوت عنه ويبقى مضمرا. حب ينمو وشهوة تتوقد، ولقاءات تتحدث بالعام المشترك؛ أنه قضية الثورة السورية. لم يتم التحدث عن إمكاناتهم المادية، لكنهم يتصرفون على أنهم يمتلكون ما يستطيعوا العيش من خلاله دون معاناة. مسكونون بتقيّة يظهرون شيء ويخفون أشياء. حذر وريبة وخوف ورثوها من عصر الاستبداد والقهر المديد الذي عاشوا به اعمارهم كلها في سورية عبر عقود. يتميزون بأنهم من منابت اجتماعية ومناطقية وطائفية ودينية مختلفة متنوعة. انهم يمثلون سورية الثائرة بكل مكوناتها.
تبدأ الرواية من خلال دعوة أحد الشباب الملتقين في مقهى بولييه في باريس للشباب والصبايا الذين يلتقون في كل يوم تقريبا لبناء تنسيقية الثورة السورية في غربتهم. يحاولون من خلالها القول أن الثورة السورية مستمرة من خلالهم. ولو في لجوئهم في باريس وأوروبا عموما. يعرفون أنهم بقايا لأشلاء الثورة التي قتلت في سورية تحت نظر العالم وصمته. البعض منهم كان متفائلا جدا ونظر للموضوع بصفته بداية جدّية لدعم ما تبقى من جذوة الثورة السورية في الداخل. او احيائها من جديد، والبعض اعتبرها مجرد إحياء لميّت لا يمكن إحياؤه. لكن الكل انخرط فيها حضورا ومناقشة وتوثيقا.
سنتعرف من خلال اللقاءات والتقارير المكتوبة عن جلسات التنسيقية والبوح الذاتي لكل من الشباب والصبايا في التنسيقية المتشكلة، واقع تجربة الكل كيف بدؤوا؟. وماذا كان دورهم حتى وصلوا الى واقعهم المعاش الآن؟.
نعرف فيصل صاحب الدعوة لبناء التنسيقية الذي كان أحد ناشطي الثورة السورية في دمشق، له موقع على النت واستمر في نشاطه حتى لجوئه الى فرنسا، تحدث كيف انتقل مثل كثير من السوريين الى تركيا ثم عبر المهربين الى اليونان ثم أوروبا عبر البحر والمخاطرة بحياتهم. مات الكثير من السوريين في البحر غرقا. هو استطاع الوصول إلى فرنسا أخيرا. أما قيس الشاب الإدلبي السني الذي كان ضابطا طيار بالجيش السوري كانت خدمته في دير الزور. تحدث باستفاضة عن واقع التمييز الطائفي في الجيش السوري. حيث الأولوية والسيطرة للعلويين فهم القادة وضباط الأمن والمنفذين الفعليين لسياسات السلطة في الجيش والأمن. سقطت التورية والحديث عن الوطن والشعب الواحد عند زملاء الطيار قيس، لقد خاطبوه كسني تحت الإختبار متهم حتى يثبت براءته. في لقائه مع جميل الحسن رئيس المخابرات الجوية الذي هدد وتوعد واعلن أنه مستعد أن يقتل مليون سوري ليحمي النظام؛ وفعلها. وقال الأسد أو نحرق البلد؛ وفعلها أيضا. لقد حاصروا قيس وفرضوا عليه أن يقصف الناس العزل في مدينة دير الزور. ناور وتخفى كثيرا حتى استطاع الهروب والإنشقاق. كانوا يضغطون عليه عبر عائلته التي كانت رهينة للنظام. كثير من ضباط الجيش عجزوا عن الانشقاق خوفا من التنكيل بعائلاتهم، والبعض منهم دفع أهلهم عنهم حياتهم. البعض اعتقل واغتصب ومات في سجون النظام.
تالا نموذج للفتاة أو الشاب العلوي الذي انتمى للثورة السورية، قدمت حياتها ثمنا لموقفها. الثوار اعتبروها نموذجا للوحدة الوطنية في الثورة السورية. ثورة الشعب السوري الواحد ثورة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية. دعمت الثوار ساهمت بكشف خطط النظام مستفيدة من كونها ابنة ضابط كبير في النظام. وعندنا كشفت تم التنكيل فيها بكل قسوة. طالبوها أن تقدم معلومات عن الثوار حتى يغفروا لها؛ لم تستجب. وضعت بالمعتقل قاست أسوأ أنواع العذاب. من خلال ما قالته تالا عرفنا واقع المسالخ البشرية في معتقلات النظام في الثورة السورية. الداخل للمعتقلات والسجون. داخل ليموت في تعذيب حتى الموت، عايشت الجثث نامت بجوارها. قامت بحملها من مكان لآخر حسب طلب السجانين، شاهدت ما جعلها تصل الى مرحلة تحتاج متابعة طبيب نفسي. ومع ذلك انهارت طبيبتها الفرنسية من هول ما قالته لها. وطالبتها أن لا تعود إليها ثانية. تالا لم تستسلم لجلاديها. وتم إخراجها من السجن ووصلت الى فرنسا. بقيت مخلصة للثورة. وقالت لو عدت مجددا الى سورية لعدت للعمل في الثورة ومناشطها مجددا.
أما لجين فهي مسيحية أصلها من دمشق تدرس دكتوراه في العلوم السياسية في باريس. تنتمي للثورة السورية أيضا.
أما مصطفى ابن السلمية الإسماعيلي مدمن شرب الحشيش ينتمي إلى الثورة السورية. كان نشاطه منصب على الجانب الإعلامي. كان ينتقل بين مواقع النشاط الثوري يصور وينشر مقاطع التظاهر على الانترنت. كان مع آخرين من بقية مكونات الثورة السورية. لكن عنف النظام وتحول الثورة نحو العسكرة. وبداية تواجد المجموعات الاسلامية المسلحة من النصرة وبعدها داعش. جعلت حياتهم في خطر حتى في المناطق المحررة. مما دفعه للخروج من سورية واللجوء الى فرنسا.
أما حذيفة ابن بلدة داريا من ريف دمشق. الذي كان واصدقاؤه من أوائل من بادروا للخروج للتظاهر، وساهم في بناء تنسيقية داريا. تحدث عن السلمية في التظاهر. تحدث عن الورود التي قدموها للعساكر حيث كانوا يجتاحون داريا. لكن النظام لم يتقبل سلميتهم. دفعهم عبر عنفه أن يبدؤوا بتشكيل كتائب الجيش الحر الخاص بهم. تحدث عمّا حصل بعد ذلك من تحرير داريا من النظام وحصارها بعد ذلك، تحدث عن قصف ريف دمشق بالكيماوي…الخ. وكان آخر ترحاله في باريس أيضا.
أما داوود الحاصل على دكتوراه في العلوم الإجتماعية المسيحي من وادي النصارى. الذي كان يخدم في الجيش ملازما إجباريا. دفعه فعل النظام الوحشي للانشقاق عن الجيش واللجوء خارج سورية أيضا.
أما سيدرا ابنة اللاذقية والدها سني وأمها علوية. انضمت للثورة. استغلت كون أمها علوية، ادّعت أنها تعمل ضد الثورة والناشطين الثوريين. استطاعت الوصول لكثير من الشبيحة حيث تمّ تصفيتهم من قبل الثوار. كما كان لها علاقات مع كثير من أجهزة المخابرات الغربية، قدمت لهم المعلومات وكانت تحت حمايتهم. وعندما احست بالخطورة على حياتها ساعدوها بالخروج إلى فرنسا. يتهمها الناشطون حولها بأنها عاهرة تبيع نفسها لمن يدفع. لا يبيحون لها بشكوكهم حولها. يشتهونها جميعا. مظاهرها الأقرب إلى التعري تثيرهم وتغريهم. وهي تتحدى فيهم رجولتهم التي يخافون أن يبوحون بها معها. تلتقي مع كثير من الشخصيات النافذة. مستغلة انوثتها وجمالها. الكل يهواها ولا يصل إليها. تكشف عن أنها متهمة من الكل انها عاهرة. وتقول هي عن نفسها في لحظة ضعف وخواء نفسي وعاطفي. انها مازالت عذراء. كل الرجال يهزمون أمامها أخيرا.
تكتمل صورة البوح عند المجموعة بالحديث عن جابر ابن دير الزور دارس الرياضيات، الشاب الكتوم الصامت الشارد أغلب الأحيان. يحاول التقرب من تالا التي كانت مسكونة بتجربتها المرة. الذي زاد من مرارتها. انفصالها عن صديقها مع أن لديها طفلة منه. تالا التي تبين أنها قد ماتت دهسا تحت عجلات قطار في باريس. وأن هناك من دفعها لتقع تحت عجلات القطار، إنه جابر وعندما توجهت القوى الأمنية الفرنسية إليه تبين أنه مسلح، قاومهم وقتل بعض عناصر الشرطة. ومات بعدها بسلاح الشرطة الفرنسية. وبوفاته وصلت رسالة لفيصل كاتب الرواية تتحدث عن جابر بالتفصيل. إنه أحد الشباب اليساري من دير الزور شارك بنشاط الثورة منذ البداية. و وعندما واجه النظام التظاهر بالعنف المسلح، مما دفع الناشطين إلى تشكيل مجموعات الجيش الحر لمقاومة النظام. وسرعان ما ظهرت داعش بعد ذلك التي سيطرت على دير الزور وكثير من المناطق المحررة في سورية. اعتقلت الكثير من شباب الجيش الحر. ومنهم جابر. وضع في أحد سجون داعش. كان ينتظر أن يتم تصفيته. لكن أحد قيادات داعش ممن كانوا من الجهاديين السوريين العائدين من أفغانستان قد أخذ الإذن من البغدادي. بخلق مجموعة من الجهاديين وإرسالهم إلى باريس واستقرارهم هناك. ضمن خطة ارهابية محكمة تؤدي للسيطرة على باريس. كان جابر أحد المستهدفين من قبل القيادي في داعش لأجل هذه المهمة، حيث تم غسل دماغه واقناعه بدور جهادي. وأن الإسلام ودولته داعش ستسيطر على فرنسا ويكون لها دور دولي كبير، وقد تسيطر على العالم. أرسل جابر الى فرنسا لهذا الهدف. كان جزء من تنسيقية مولييه يختفي تحت نشاطها وينتظر لحظة مباشرة تنظيمهم داعش في أعماله الإرهابية في باريس، كمقدمة للسيطرة عليها. لكن ما فعله مع تالا والقائها أمام القطار وقتلها سارع بكشفه وكشف مجموعته. قتل بعضهم وقبض على الآخرين. وهكذا تنتهي قصة جابر.
تنتهي الرواية عندما تصل الرسالة التي تتحدث عن جابر الى فيصل ليضمها الى محاضر جلسات التنسيقية ليصنع منها الرواية التي بين يدينا.
في تحليل الرواية نقول:
- البنية الفنية والتوصيل:
نجحت الرواية في قدرتها على الربط بين الذاتي عند أشخاصها والمعاش في حياتهم حيث هم في فرنسا. كما تمكنت من الغوص عميقا في حياتهم السابقة الحالية وما عاشوه بكل شفافية ومصداقية. استطاعت الغوص في المسكوت عنه والمعاش النفسي، والأهواء والتمنيات والتوهمات والهواجس البينية. غاصت عميقا في واقع اشخاصها الذين يمثلون نموذجا مصغرا عن سورية بمكوناتها الطائفية والدينية. مستفيضة بطرح واقع الظلم والفساد والإستبداد وضرورة الثورة السورية وشرعيتها.
- المسكوت عنه:
سكتت الرواية عن الأكراد السوريين بصفتهم مكون مجتمعي مهم في سورية و الثورة السورية. حيث الحدث الروائي بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٨م. سواء في مناطق تواجدهم. وما صاحب واقع الأكراد السوريين بعد ذلك من استخدام إقليمي ودولي، وتحول حزب العمال الكردستاني ال ب ك ك لقوة أمر واقع مدعوم أمريكيا لتقسيم سورية.
كما سكتت عن التدخلات الخارجية الداعمة للنظام من روسيا وإيران والمرتزقة الطائفيين مثل حزب الله. وصمت الغرب وأمريكا. وتراجع الدعم العربي وانعدامه أخيرا. وترك الشعب السوري وسورية كلها ارضا وشعبا ضحية احتلالات وتقسيم وقمع وموت معمم وتشريد وسجون ومعتقلات وفقر وجوع ومرض ومخيمات عار ومآسي.
كما سكتت الرواية عن الوجه الاسلامي الديمقراطي سواء بين الناشطين والمجموعات المسلحة. ولم يظهر إلا النموذج الأسوأ الذي استخدم الإسلام وأساء له. نموذج داعش. الذي ربط بين الاسلام والارهاب دوليا.
حق للشعب السوري أن يُنصف انتماؤه الديني الاسلامي ويرفع عنه الالتباس، وأن لا نكون كسوريين في اغلبيتنا إرهابيين محتملين لمجرد كوننا مسلمين بالوراثة.
- أخيرا:
ليس ملزم الروائي بما يراه القارئ او الناقد وبالتالي ما نقوله هنا ليس أكثر من وجهة نظر تلقي الضوء على الرواية وتزيدها تنويرا.
الرواية متميزة تغوص في موضوعها عميقا. تشد إليها. تجعلنا كقراء جزء من سياقها، نحب ونكره و نتوجس وننتظر ماذا بعد…؟ !.
ماذا بعد؟ . الثورة السورية تنتظر أن تستمر. في الرواية اشارة عن الثورة الفرنسية التي استمرت قرنين حتى صنعت دولتها الوطنية الديمقراطية.
إذا ثورتنا مستمرة. وما حدث إلى الآن جولة او جولات. سواء انتصرنا أو انهزمنا كشعب فيها؛ ليست النهاية.
الأصل أن مشروعية الثورة مستمرة، كان الإستبداد والفساد والمظلومية مبررا للثورة في البدء، زاد عليهم مليون شهيد ومثلهم مصابين ومعاقين، وملايين المشردين داخلا وخارجا، ونصف سورية المدمر. والإحتلال من روسيا وإيران وأمريكا، وبعض سورية يُصنع فيه انفصال كردي مدعوم من أمريكا….لكل ذلك ثورتنا مستمرة….