تداولت صفحات محلية سورية، في اليومين الأخيرين، مقارنةً بين متوسط الأجور الشهرية في المناطق السورية الثلاث المُقسّمة في الداخل، حسب تبعية السلطات التي تسيطر عليها.
ورغم أن المنشورات التي تناولت تلك المقارنة اعتمدت أرقاماً غير دقيقة، أو تناولت شرائح محددة من أصحاب الدخول، إلا أن فكرة المقارنة ذاتها، كانت دقيقة، وربما هي مفارقة لا يدركها الكثيرون في سوريا، وهي أن أدنى الأجور نجدها في مناطق سيطرة نظام الأسد. وبالمقارنة مع تكاليف المعيشة في المناطق الثلاث، مناطق سيطرة نظام الأسد التي تشمل أكثر من 60% من الجغرافيا السورية، ومنطقة “شرق الفرات” التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية”، ومنطقة شمال غرب سوريا (ريف حلب الشمالي، وإدلب) التي تسيطر عليها فصائل جهادية أو معارضة وسط نفوذ تركي كبير، فإن أدنى مستوى معيشة للسوريين في الداخل، نجده في مناطق سيطرة نظام الأسد، الذي من المُفترض أنه يتمتع بمؤسسات “دولة” مستقرة نسبياً، مقارنة بحالة الفوضى المؤسساتية التي تعيشها المناطق الأخرى.
وبعيداً عن الأرقام التي تداولتها تلك الصفحات، نجد بالاستناد إلى تقارير ميدانية متقاطعة، رصدت الواقع المعيشي للسوريين على مدار العام 2020، أن الفارق بين متوسط الأجور في مناطق سيطرة النظام، وبين نظيره في منطقتي “شرق الفرات” و”شمال غرب سوريا”، يصل إلى الضعف.
إذ يبدأ الحد الأدنى للأجور، على مستوى عمال اليوميين، في مناطق سيطرة النظام، من وسطي 20 دولار شهرياً. ويرتفع مع فئة الموظفين إلى 30 ومن ثم 40 دولار شهرياً. ليصل في أقصى حدوده في فئة موظفي القطاع الخاص إلى 70 دولار شهرياً. والرقم الأخير يشكل فقط 67% من الحد الأدنى للكفاف، لعائلة من 5 أشخاص في مناطق سيطرة النظام.
فيما يبدأ الحد الأدنى للأجور في إدلب وفي القامشلي كمثالين عن منطقتي “شمال غرب سوريا”، و”شرق الفرات”، من 40 دولار شهرياً، ليرتفع إلى 60 دولار وفي أقصى الحدود إلى 150 دولار. وفي بعض الحالات المحدودة، يصل الأجر الشهري إلى 1000 أو 1500 دولار لموظفي المنظمات الإغاثية الدولية.
يتضح من هذه الأرقام، أن متوسط الأجور في إدلب وشرق الفرات، أعلى بمعدل الضعف، مقارنة بنظيره في مناطق سيطرة النظام. وهذا الفارق لا ينفي حقيقة أن كل السوريين في الداخل يعيشون حالة فقر أو يقتربون منها، وفق آخر تقرير صادر عن وكالات تتبع للأمم المتحدة في حزيران 2020، والذي يقول إن 90% من سوريي الداخل باتوا تحت خط الفقر البالغ دولارين يومياً.
لكن كان اللافت في بيانات الأمم المتحدة تلك، الإشارة إلى أن العدد الأكبر من المحتاجين للمساعدات يوجدون في حلب ومن ثم ريف دمشق، أي مناطق خاضعة لسيطرة النظام. ومن ثم يأتي على القائمة أولئك الموجودون في إدلب.
تلك المفارقة، حيث لا قصف أو براميل متفجرة، نجد أفقر السوريين، فيما نجد أوضاع نظرائهم في مناطق مستهدفة عسكرياً بشكل دوري، أفضل نسبياً، تطرح تساؤلاً حول سبب ذلك. فالنتيجة الأولية التي تقودنا إليها تلك المفارقة، هي أن الإدارة الاقتصادية من جانب نظام الأسد، هي الأسوأ مقارنة بتلك الإدارات الاقتصادية القائمة في شمال غرب سوريا، و”شرق الفرات”.
وهنا، يجب الإشارة إلى أن هذه المفارقة، لا تنفي سوء الإدارة الاقتصادية من جانب سلطات الأمر الواقع في “شمال غرب سوريا”، وفي “شرق الفرات”، حيث تتضح جلياً مظاهر الفشل المؤسساتي، والفساد والمحسوبية، وتغول السلطات على مصادر الرزق، وموارد الخاضعين لسلطتها. إلا أن المقارنة في “سوريا الداخل”، تبدو بين سيء وأسوأ. وفي هذه المقارنة، فإن إدارة نظام الأسد هي الأسوأ.
أما ما أسباب الوصول إلى هذه المفارقة؟ فالإجابة تتعلق بمدى تدخل سلطات الأمر الواقع في حياة السوريين الاقتصادية، وتحكمها بموارد الرزق واحتكاره لصالح المحسوبين عليها، في المناطق الثلاث آنفة الذكر؟ إذ يمكن من خلال الرصد والمتابعة لحياة السوريين الاقتصادية، في المناطق الثلاث، أن يتضح لنا بصورة جليّة، أن هامش حرية النشاط الاقتصادي، في مناطق “شمال غرب سوريا” و”شرق الفرات”، أوسع من ذلك الهامش المتاح في مناطق سيطرة النظام، الذي يتحكم بكل مفاصل حياة السوريين الاقتصادية، ولا يترك أي نشاط أو مصدر رزق أو مورد، من دون أن يحتكره لصالح المتنفذين المحسوبين عليه.
ويكفي أن نذكر كمؤشر لذلك، قضية “دولار الحوالات”، التي تشكل مصدر الحياة الرئيس لفئة واسعة من السوريين في الداخل، والذي يصرّ نظام الأسد منذ أكثر من 8 سنوات، على تحديده بأقل من نصف سعر الدولار في السوق السوداء، حيث يخسر أي سوريّ يتلقى حوالته بالطرق النظامية، نصف قيمة ما يصله من مساعدة من أقاربه المغتربين في الخارج، لصالح خزينة المصرف المركزي، أو لصالح مكاتب وشركات صرافة، تتبع في جلّها لمتنفذين محسوبين على النظام. وفيما يحدد نظام الأسد “دولار الحوالات”، في الوقت الراهن بـ 1250 ليرة للدولار الواحد، يتراوح “دولار السوق السوداء” ما بين 2870 و2900 ليرة. في هذه الأثناء، يتلقى السوريون في شمال غرب سوريا وشرق الفرات، حوالاتهم من الخارج، بأسعار قريبة جداً من سعر السوق السوداء. وهذا أحد العوامل الرئيسة، في فروق مستوى المعيشة بين هاتين المنطقتين من جهة، وبين مناطق سيطرة نظام الأسد، من جهة ثانية. من دون أن ننسى الإشارة إلى عامل آخر، يتمثل في انتهاج النظام سياسة انتقامية من سكان مناطق المصالحات معه، كمثال في ريف دمشق ودرعا، حيث نجد أكثر الفئات حاجةً للمساعدة، وأكثرهم اضطهاداً على صعيد تضييق سبل تحصيل الرزق.
المصدر: المدن