منذ أن أكد تلفزيون الجديد، بالوثائق، ان ثلاثة من رجالات بشار الاسد، هم الذين استوردوا شحنة نترات الامونيوم التي انفجرت في مرفأ بيروت في الرابع من شهر آب/ أغسطس الماضي، استعادت الذاكرة معلومات ومعطيات كثيرة عن الأثمان الباهظة الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية التي دفعها لبنان منذ اليوم الاول للثورة السورية قبل عشر سنوات، ولا يزال من أجل بقاء النظام السوري، والتي لا تقتصر فقط على قرار حزب الله بالانخراط التام في معركة ذلك النظام مع غالبية شعبه.
لم ينس أحد أنه في الساعات والايام الاولى التي أعقبت كارثة مرفأ بيروت، حيث جرى التداول بتقديرات تفيد أن الشحنة سورية، وكان الهدف منها خدمة المشروع الحربي للنظام السوري، الذي بدأ يفتقر منذ العام 2013، تاريخ وصول سفينة النترات الى العاصمة اللبنانية، للمال الكافي لاستيراد الذخائر الجاهزة لآلته العسكرية، فلجأ بنصيحة روسية الى الخيار الوحشي بتصنيع براميل متفجرة، لا تزيد كلفتها عن مائتي دولار للبرميل الواحد.. كان اثرها مدمراً على البلدات والقرى السورية، وأسفرت عن واحدة من أكبر الهجرات الجماعية في العقود الماضية.
يومها جرى على الفور الطعن بتلك التقديرات بإعتبار أن نظام الاسد لم يكن يحتاج الى اعتماد مرفأ بيروت لهذا الغرض الحساس، لأن مرافئه الرسمية لم تكن قد خضعت للعقوبات الدولية، ومرافىء أنصاره، غير الشرعية على الساحل السوري لم تكن قد خضعت للرقابة الدولية. وصدق الجميع في حينه أن النظام لم يكن لديه ما يبرر إيصال شحنة مريبة الى مرفأ لبناني مراقب، ثم نقلها براً أو بحراً الى الاراضي السورية، لاستخدامها في إنتاج ما يحتاجه من براميل متفجرة وذخائر متنوعة لأسلحة جيشه.
الآن، ثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن النترات كانت جزءاً من حركة التجارة السورية، العسكرية وحتى المدنية، بإعتبار ان نترات الامونيوم، تدخل في المجال الزراعي. وقد جرى التخلي عن ما تبقى من الشحنة ( نحو ربع الكمية المستوردة) بعدما تراجعت الحاجة الى البراميل المتفجرة، والى المكونات الزراعية، وزادت أكلاف النقل ( بما فيها أعطال السفينة نفسها) وتدخل التجار والسماسرة اللبنانيون في محاولة الاستفادة المالية من الامونيوم.
الى هنا تنتهي القصة..أو تنفتح على مسار جديد، يفترض التحقيق مع التجار السوريين الثلاثة، الخاضعين للعقوبات الدولية بصفتهم شركاء وممولين لنظام الاسد، الذين إستوردوا الشحنة، ولم يكن غرضهم بيعها في الاسواق اللبنانية طبعا.. على أمل ان تُسد ثغرة مهمة في قضية إنفجار المرفأ، بما يخدم ذوي الضحايا والمتضررين، على الأقل، وبما يكشف ربما عن الشركاء والمتورطين اللبنانيين في مثل هذه التجارة القاتلة.. ومعهم طبعا المتهربين من المسؤولية او المتهمين بالإهمال.
لكن سد هذه الثغرة في التحقيق لن يقارب حقيقة أن ذلك الانفجار كان أحدى ضرائب الحرب السورية، التي تشبه بكلفتها البشرية الباهظة، الضريبة التي يدفعها حزب الله، بالتكليف، دفاعاً عن نظام الاسد، وإن كانت أرقام الضحايا أقل بكثير مما قدمه الحزب، بإرادته وتصميمه، ووعيه الزائف بحقيقة النظام وطبيعته. لكنها تندرج في سياق واحد: لبنان يحتل المرتبة الاولى في دول الجوار السوري في تقديم الاضحية للحرب السورية، من القرابين البشرية، الى الأعباء الانسانية الناجمة عن وجود ما يزيد على مليون ناجح سوري، الى الاكلاف النقدية، التي تدفعها بشكل متزايد مالية الدولة اللبنانية عن طريق الخوة والتهريب وباقي التجارات غير المشروعة، لا سيما منها المخدرات التي باتت تدار من سوريا، حيث ترسل المواد المخدرة في صناديق كتبت عليها عبارة Made in Lebanon الى مختلف موانىء المتوسط!
هذه الضرائب المجحفة، والتي لا تقدر بثمن، لا يبدو أنها ستنخفض، أو سيعفى لبنان من دفعها، قبل أن يتحقق حلم تغيير النظام في دمشق.
المصدر: المدن